دلالات سياسية لتغيرات أمنية ..
كان مفاجئا للطبقة السياسية في الحكم والمعارضة على حد سواء، خروج مدير دائرة المخابرات العامة الباشا محمد الذهبي من موقعه. المفاجآة كانت في التوقيت، وفي حجم التغيير في ادارة "الدائرة"، وحساسية الوضع السياسي- الامن محليا واقليميا, في اعقاب اندلاع العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة.
لم يكن خيار رحيل "الباشا" مستبعدا، في مرحلة احتدام الصراع مع الند د. باسم عوض الله، رئيس الديوان الملكي السابق، الذي كان يحظى بدعم من الملك، فقد كان متوقعا خروجه من موقعه الحساس, قبل خروج عوض الله من الديوان, او خروجهما معا في آن واحد, لكن خروج د. عوض الله اولا, اعطى الانطباع بأن "الباشا" كسب "المعركة", وان ملف التنازع, طوي الى غير رجعة.
كان مفاجئا للمراقبين سخونة المواجهة بين مركزين اساسيين وحساسين من مراكز صنع القرار والادارة السياسية للدولة, وصلت حد التناحر وادخلت البلاد في حالة استقطاب, اقلقت النخب السياسية, واثارت كثيرا من الاسئلة, حول خيارات الدولة المستقبلية على مختلف الصعد وتعالت الاصوات مطالبة بوضع حد لهذا النزاع السلمي الخشن وغير المسبوق منذ تجاذبات اركان الحكم في مرحلة الخمسينات وصراع الخيارات حينئذ.
كان "الباشا" نجما سياسيا في المرحلة السابقة ولاعبا اساسيا في كل الملفات الحساسة الداخلية والخارجية على حد سواء, ونجح الى حد بعيد في تعظيم الدور السياسي "للدائرة" وخرج به الى العلن, واظهر "الدائرة" وكأنها صاحبة مشروع سياسي واقتصادي واجتماعي, يسير بخط موازن للوجهة العامة المعتمدة للدولة, وكسب شعبية في اوساط القاعدة الاجتماعية التقليدية للحكم, وحظي على رضى اركان مهمة من الطبقة السياسية الحاكمة, وظهر "كمدير" لها.
كان لعناد "الباشا" واندفاعاته السياسية, تأثيرات عميقة على مسار الحراك السياسي- الاجتماعي الذي مرت به البلاد خلال النصف الثاني من العام المنصرم (2008), وامتلك الشجاعة والثقة, ليدفع به الى محطة الحسم, في مشهد غير مألوف ظهرت فيه "الدائرة" وكأنها تغرد خارج السرب.
كان واضحا ان "الباشا" اختار طريقا شائكا, محفوفا بالمخاطر, لا يخلو من المغامرة والتجريب, واظهر ثقة عالية في النفس, يبدو انه اكتسبها من وجوده سنوات طويلة في مطبخ القرار السياسي- الامني حتى قبل وجوده مديرا لدائرة المخابرات العامة, وملكته هذه التجربة الخاصة, خبرة سياسية غنية, جعلت منه اكثر من فارس من "فرسان الحق", والمؤتمن الاول على الملف الامني للدولة.
لم يقتصر دور "الباشا" على دور "القبطان" في ادارة وتوجيه "الحراك" الداخلي, بل وسع دائرة فعله السياسي وبدا تأثيره واضحا على خيارات الانفتاح التي اقدمت عليها الدولة مع سوريا وقطر وحركة "حماس", وتعامل الرجل بيقظة وتحفّز تجاه خطر الوطن البديل, وتعامل مع "حماس" باعتبارها السند الفلسطيني المقاوم للحلول السياسية التصفوية للقضية الفلسطينية وتحديدا الوطن البديل وركزت حملته الاعلامية بقوة على هذا الخطر الذي يهدد الكيان الاردني بعد تعثر مسار حل الدولتين, وضرب بهذا التركيز الاعلامي والسياسي على مخاطر الوطن البديل, عصفورين بحجر واحد.
فهو من جهة ايقظ الضمير الوطني الاردني, ورفع من درجة اليقظة السياسية للدولة لهذا الخطر المحتمل, ومن جهة اخرى, كانت الحملة الاعلامية تربط ما بين هذا الخطر الداهم وبين خصمه د. عوض الله, باعتباره عرابا لهذا الحل, والحديث عن وثيقة (ع. ع) كانت احد ابرز تجليات هذا الربط.
المشروع "الانقاذي" الذي عمل عليه "الباشا", لم يطبخ على نار هادئة, اتسم بالانفعالية والبحث عن نتائج سريعة ما ادخله في تكتيكات محرجة, خارج تقاليد الحكم المستقرة منذ سنين, طويلة, فقد فتح "الباشا" رقعة الشطرنج على اتساعها, وادار حملة اعلامية قوية ووظف الاعلام باحتراف سياسي مشهود, وضبط ايقاع العمل البرلماني, بما يخدم "الفكرة" ساعده على ذلك التركيبة السياسية والاجتماعية للبرلمان.
مجيء حكومة الرئيس الشقيق نادر الذهبي, اواخر عام (2007), ساهم بشكل جلي في بلورة خيارات "الباشا" وسلوكه اللاحق, فالحماسة لانجاح التجربة, اختلطت مع رؤيته الخاصة, للمسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستقرة, التي اصطدمت بوجود "ركن قوي" في رئاسة الديوان الملكي ابدي دائما رغبة في التمدد وادارة اشبه ما يكون لحكومة الظل. وكانت بداية "الاشتباك" حول ما سمي بالولاية العامة للحكومة.
وكانت معركة رابحة سياسيا, وقد دعمها الملك, واكد في غير مناسبة تمسكه بالدستور نصاً وروحاً، ما اعتبر في حينه انتصارا لمدرسة الحفاظ على دور الدولة ورفض فكفكتها.
وقد حاول الملك فض الاشتباك بين رمزين من جيل الشباب كان يعول كثيرا على تفاهمهما, مع وجود رئيس للحكومة, اظهر كفاءة واخلاصا لفكر الملك وتوجهاته الاصلاحية. لكن الحملة التي كان يديرها "الباشا", اوصلت الامور الى محطة الحسم ونقطة اللا عودة.
عمل الرئيس نادر الذهبي, بصمت وهدوء وتواضع وحذر, في هذه المناخات المشحونة, وكان يسير على حد السيف محاولا ان لا يترك اثرا في ادارته وسلوكه, يفسر وكأنه انحيازا لشقيقه على حساب د. عوض الله. ولم يظهر للعلن على الاقل, ما يمكن تفسيره تناغما عمليا بين الشقيقين.
وقد استفاد الرئيس الذهبي, من البيئة المساندة في الاعلام والبرلمان, ليقدم اداء لافتا اتسم بالمبادرة والصدقية والاهم التميز بخطاب واجراءات, بدت وكأنها تعيد الاعتبار لدور الدولة الاجتماعي, وقد اسند هذا التوجه بدعم ملكي واضح من خلال المبادرات الملكية ذات البعد الاجتماعي "سكن كريم, شبكة الامان الاجتماعي, زيادات الرواتب والتأمينات".
لقد كانت حكومة الذهبي محظوظة جدا, فقد عملت الظروف الخارجية على خدمتها وتخفيف الضغط عليها, فكان للازمة المالية العالمية وانعكاساتها على تخفيض اسعار النفط, والصدقية التي تعاملت معها الحكومة بالتخفيض المتواتر لاسعار المشتقات النفطية, اثر كبير, في تحسين المزاج الشعبي نحو الحكومة, ما رفع من اسهمها وعزز من مكانتها السياسية.
وبدا المشهد وكأن حكومة "الذهبيين" تستعد لانطلاقة جديدة, تتوج المتغيرات التي حصلت في اعقاب ابعاد د. عوض الله وما يمثل عن "الادارة السياسية" للحكم.
وبدأ الحديث عن تعديل وزاري واسع, يستهدف امتدادات مدرسة د. عوض الله في الحكومة, الذين كانوا محط نقد اعلامي مركز.
لكن هذا التعديل الذي بشر به قبل رحيل د. عوض الله, واستمر بقوة, بعد رحيله, لم يحصل, وظل الاعلام يمهد ويحدد له ازمانا.
لكن الرئيس كان يلوذ بالصمت, قيل ان الرئيس اخذ ضوءا اخضرا لكن التأخير في اجراء التعديل الموسع كل هذه المدة, يبدو انه يغير رغبة الرئيس الذي كان يطمح في تقوية فريقه الوزاري وجعله اكثر انسجاما ولياقة سياسية وادارية، ما يعزز مقولة ان الرئيس اخذ ضوءا اصفر, جعله يضم ملف التعديل الى صدره, ويتريث ولم يرشح انه قام باستشارات او استمزاجات حوله.
وجاء رحيل الباشا محمد الذهبي المفاجئ مع طاقم مساعديه, ليقدم الجواب على تأخر التعديل الوزاري الذي وجدت مبررات اضافية لتأجيله بعد الحرب الاسرائيلية على غزة.
تأخير التعديل الوزاري يعزز من مقولة ان قرار رحيل "الباشا" اتخذ في نفس الوقت الذي اتخذ فيه قرار رحيل د. عوض الله, والتأخير في تنفيذ القرار, كان لاسباب التدرج في معالجة الازمة التي تفاقمت بين الرجلين.
توقيت القرار ايضا خضع لتفسيرات واجتهادات و"شطحات". لكن الذي لا يبدو فيه مجال للشك, هو ان قرار تنحية "الباشا" جاء ليعبر التوازن الى حلقات صنع القرار في الدولة الاردنية, وليؤكد بما لا يدع مجالا للشك ان القصر هو المرجعية الاولى والوحيدة, ومن غير المسموح به بناء مراكز قوى خارج مظلة القصر الملكي.
وليس بلا معنى اختيار مدير جديد "للدائرة" يتميز بحرفية مهنية عالية, ما فسر على انه العودة "بالدائرة" الى مهمتها الرئيسية, من دون التمدد ولعب دور سياسي مباشر, او مستقل.
بقي ان اقول, بأن الحراك السياسي الاجتماعي الذي شهدته البلاد خلال العام المنصرف, كان له ايجابيات كثيرة على غرابته وسلبياته. اهمها, انه احدث جدلا سياسيا مهما, وساهم في تسليط الضوء على جوانب مهمة وحساسة في التوجهات العامة للدولة, اظنها تحسب لصالح الدولة والمجتمع, وقد استثمر الاردنيون سعة الصدر الملكية الى الحد الاقصى, وشاركهم الملك, في السجال والنقد والحوار من خلال مقابلته الشهيرة مع وكالة الانباء الاردنية "بترا", ولم يلجأ الى القرارات الادارية الفوقية للجم "الحراك", لكن لابد في النهاية من وضع الامور في نصابها.
لا يتوقع ان تتأثر حكومة الرئيس نادر الذهبي, بهذه المتغيرات فستظل تلقى دعم "الدائرة" والاهم الدعم الملكي الموصول وسيصل الرئيس الى محطة التعديل بسلام ومن دون وصاية. واظن انه يملك من الذكاء ما يكفي لادارة ملف التعديل بتوازن ومسؤولية. فاللبيب من الاشارة يفهم. وما نزال نراهن على ان لا يكون التعديل تقليديا, وان يحمل بصمات سياسية واصلاحية واعدة.
bassam.haddadeen@alghad.jo
نقلا عن صحيفة الغد.