المجزرة المستمرة ، التي ترتكبها اسرائيل ضد الابرياء في غزة ، من اطفال ونساء ومواطنين عزل ، تجاوزت حدود المشاعر القومية ، لتثير مشاعر انسانية في نفوس البشر حول العالم ، لبشاعة ما يغترف في غزة من جرائم حرب ، فاقت كل تصور .
لا يمكن ابدا لاي انسان محايد ، ان يبرر هذه الجرائم ابدا ، فالصراع يمكن ان يأخذ اشكالا عدة ، واسرائيل هي الطرف الاقوى في هذا الصراع ، ليس عسكريا فقط ، بل لعوامل عديدة ، فالقطاع معزول عن العالم ، ولا مكان للمدنيين للهرب من جحيم القصف ، فقد اصبح كله ساحة حرب ، وحيث الاوضاع الاقتصادية البائسة التي عاشها اهل قطاع غزة ، مع الحصار ومنع دخول المواد الاساسية ، فكيف ستصبح بعد هذا القصف المتواصل ، برا وبحرا وجوا ، ردا على صواريخ بدائية الصنع ، لا مجال لمقارنتها مع اسلحة الدمار الاسرائيلية ، انها حرب ابادة جماعية لكل سكان القطاع .
الصراع بين اسرائيل وحماس ، لا يتحمل مسؤوليته المدنيون ، الذين لا حول لهم ولا قوة ، ولا يمكن ابدا ان يقبل تبرير اسرائيل بوقف حماس للهدنة ، كي تمارس القتل الجماعي ضد الابرياء ، وبهذه الوحشية ، ان هذا هو منطق أي انسان محايد في العالم ، يعي ابعاد الصراع ، ويرى بأم عينه الفظائع ضد الابرياء في القرن الحادي والعشرين .
لقد بدأت مسيرة السلام فعليا ، عندما قبلت دول المواجهة ما عدا سوريا ، بقرار مجلس الامن الدولي رقم 242 ، ثم بعد الحركة التصحيحية عام 1970 ، قبلت سوريا بالقرار ، والذي يعني الاعتراف باسرائيل والتعايش معها على اساس العودة لحدود الرابع من حزيران 1967 ، ثم كان غصن الزيتون الذي حمله ياسر عرفات الى الجمعية العامة للامم المتحدةعام 1974 ، كنقطة تحول في مسار الثورة الفلسطينية ، ثم انفردت مصر بالصلح مع اسرائيل في كامب ديفيد ، في اعقاب زيارة السادات لاسرائيل عام 1977، ثم انفردت منظمة التحرير الفلسطينية بعقد اتفاقية سلام معها عام 1994 ، فكان الاردن اخر العرب المعتدلين في التوقيع على اتفاقية وادي عربة بعد ذلك بفترة وجيزة ، والجميع يعلم اهمية الاتفاقية للاردن ، التي فرضت على اسرائيل الاعتراف بحدود دولية للاردن ، وابعدت ولو الى حين ، شبح مؤامرة الوطن البديل ، واعادت للاردن حقوقا سليبة في الارض والمياه .
رغم كل هذه الخطوات الودية من جانب العرب ، ورغم الاتفاقات والسفارات ، والانفتاح على اسرائيل بدون سفارات ، من قبل العديد من الدول العربية ، لم تقدم اسرائيل أي تنازل لتحقيق السلام ، بل اضعفت السلطة الفلسطينية الشرعية في رام الله ، واوجدت المبررات لانتعاش التطرف ، وهيأت الظروف للانقسام الفلسطيني ، وخذلت قوى الاعتدال العربية ، ثم تأتي بعد ذلك ، لتؤكد حقدها وهمجيتها وعدوانيتها ضد الشعب العربي ، عبر هذه الجرائم البشعة ، التي هي اشبه ما تكون بحرب ابادة ، تحرق الاخضر واليابس في قطاع غزة ، تقتل الاطفال والنساء وكل الابرياء بوحشية ، تقصف المدارس والمستشفيات واماكن العبادة ، تدفع كل مواطن عربي الى التفكير بعمق ، عن ماهية السلام الذي تتحدث عنه اسرائيل ، وقادتها القتلة يمارسون ابشع الجرائم ، كي يكتسبوا شعبية انتخابية ، من شعب لم يحرك ساكنا امام جرائمهم ، بينما شعوب الارض كلها تنتفض غضبا ، فاين هي قوى السلام والديمقراطية في اسرائيل ؟
لقد كان الاردن اخر من وقع على اتفاقيات السلام مع اسرائيل ، واخر من تبادل التمثيل الدبلوماسي معها ، وما كان لينفرد باي خطوة رغما عن الارادة القومية العربية ، لولا الانفراد الذي تسابقت اليه اطراف عربية اخرى ، فقد كان دوما مع الاجماع العربي الذي جعل السلام مع اسرائيل خيارا استراتيجيا لا تكتيكيا ، وتكرس ذلك من خلال مبادرة السلام العربية ، في قمة بيروت عام 2002 ، فكيف يطلب من الاردن الآن ان ينفرد بالغاء الاتفاقية الموقعة مع اسرائيل وقطع العلاقات وطرد السفير ؟ والمغامرة بمستقبله ، فقط كي يرضي تلك الاصوات الصاخبة المطالبة بذلك ، دون الالتفات الى النتائج اللاحقة ، افلا يكفي سحب السفير الاردني من تل ابيب ؟
ان اعادة تقييم وتصويب مسيرة السلام ، امام هذا الحقد وهذه الهمجية الاسرائيلية ، التي لم تتبدل رغم كل الخطوات الودية ، اعادة التقييم هذه مسؤولية قومية ، ولا بد من قمة عربية تحدد ملامح الطريق الجديد ، وقبل ذلك تعيد اللحمة الى الجسد الفلسطيني الممزق ، والذي قدم من ساهم في تمزيقه ، وكرس الانقسام ، من حيث يدري او لا يدري ، كل التبريرات لهذه الهجمة الصهيونية الشرسة ، ولكل المؤامرات اللاحقة ، التي ستنتج عن تكريس الانفصال بين الضفة والقطاع ، وضياع فرصة انجاز الدولة الفلسطينية المنشودة ، تحقيقا لرغبة اسرائيل .
m_nasrawin@yahoo.com