من جيتو وارسو إلى جيتو غزة
ياسر ابوهلاله
08-01-2009 04:31 AM
ترسم كربلاء جديدة في غزة ، ينتصر الدم على السيف . حسنا لو كانت طفلتك التي يطوقها الحديد وكتل الإسمنت تحتل الصفحات الأولى هل ستتذكر كربلاء ؟ من يجيب نعم بسرعة إما أن يكون كذابا أو بلا قلب . فالنبي عليه السلام وقف على وفاة ابنه إبراهيم وقال :" إن القلب ليحزن وأن العين لتدمع وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون " .
فكم من إبراهيم يحزن عليه القلب وتدمع العين ؟ يسهل البكاء والتباكي ، تماما كما يسهل الفخر والتفاخر .. الصعب هو أن تتخذ قرارا بالمواجهة المكلفة . وما شخصية الشهيد نزار ريان إلا تعبير عن هذا الصراع العنيف بين السياسي والأخلاقي والإنساني . فكان قراره غير المنطقي بعدم الاختباء هو والعائلة ، حماية لقرار المواجهة الذي كان من متخذيه .
يحلم الناس جميعا بعالم بلا حروب ، وفي الإسلام الذي يشكل المكون الثقافي الأساسي " كتب عليكم القتال وهو كره لكم " فالنفس البشرية تكره القتال .وفي قصة الخلق قالت الملائكة " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ". إلا أنه وفي كل الشرائع والقيم الإنسانية ظل مطلبا اضطراريا لإقامة العدل وبسط الأمن ونشر السلام :" وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك وليا، واجعل لنا من لدنك نصيرا" .
الصراع بين الأخلاقي والإنساني والسياسي لا يقتصر على أهل غزة ، فاليهود أنفسهم يحتفلون بذكرى المحرقة " الهلوكوست " في يوم 18 -1 بعد عشرة ايام وهو اليوم الذي شهد عام 1993 انتفاضة جيتو وارسو في بولندا . يومها خاضت قلة من المقاتلين (مئة إلى أربعمئة ) معركة على ثلاثة جبهات : ضد السلطات النازية الألمانية وضد المتعاونين معها من البولنديين ، والأخطر ضد البوليس اليهودي المتعاون في الجيتو مع النازيين . تسلح المقاومون اليهود بالمسدسات والرشاشات القصيرة وحفروا الأنفاق ونصبوا المتاريس . وتضامن الجيتو معهم صمدوا أقل زهاء شهر ، وانتهت المعركة بانتصار الجيش النازي وتدمير الكنيس اليهودي واستكملت عملية الترحيل .
لم توثق الحرب العالمية الثانية على الهواء كما توثق الحرب على غزة اليوم . إلا أن السجالات الأوروبية في حينها لا تختلف عن سجالاتنا . ولو كان القرار إنسانيا لكان على أوروبا أن ترقص للنازيين لا تقاومهم .فالمقاومة كانت مكلفة جدا أودت بحياة الملايين .
إنسانيا ، كان أبناء غزة والضفة يعيشون بمستوى حياة أفضل قبل دخول السلطة ، وقبل سيطرة حماس . كان الشباب عمالا لدى الإسرائيلي يعودون إلى بيوتهم جيوبهم ممتلئة . فهل هذا عادل ؟ تسترق شعبا كاملا وتحرمه من حقه في الكرامة والحرية وتشغله لبناء المستوطنات التي تبنى على أرضه المستلبة ، ويشقى في المصانع لينعش اقتصاد المحتل و... هل هذا عادل ؟
المقاومة اليوم في غزة هي الأشرس في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي ، وخسائرها هي الأقل . لنتذكر صور الشهداء من جنود مصر الذين حصدوا بالآلاف في صحراء سيناء وثبت أن كثيرا منهم قتلوا بعد الأسر ، لنتذكر حصار بيروت .. ليست مقاومة عبثية ، ويكفي صمودها إلى اليوم . وأقسى ما تواجهه المقاومة هي صور الأطفال تحت الركام . فالمجاهد اتخذ قراره بوعي لكن من يقرر عن الأطفال ؟
العالم أكثر قسوة ، والعامل الإنساني ليس وحده من يقرر مسار الصراع . والسجالات ستسمر من جيتو وارسو إلى جيتو غزة .
الغد.