بدا أبي في شبابه نسخة عن كلارك غيبل، حيث كان يحرص حرصاً شديداً على تفصيل أطقمه بعناية كتلك التي ارتداها نجمه المفضل، وتسريح شعره كتسريحته، أو وضع قبّعة مشابهة لقبعاته، حتى لو اضطر إلى طلب القبّعة بثمن باهظ من أحد المتاجر الكبرى في بيروت.
ليست هذه المقدمة مقطعاً من رواية متخيّلة، بل حقيقة موثّقة في صور العائلة، حيث كنت أتأمل أناقة أبي الملفتة، أو ماكياج أمي وفساتينها التي تشبه فساتين إليزابيت تايلور، وأتساءل بدهشة من أية دور أزياء كانا يأتيان بهذه الموديلات الخلابة؟؟!!. لأكتشف لاحقاً أن السينما كانت غرامهما، وفي معظم الأحيان كانا يخرجان من الفيلم ويتجهان مباشرة إلى الخياط قبل أن تطير موديلات الأزياء من الذاكرة.
السينما الأميركية التي تركت آثارها الكثيرة على العالم منذ أن غزته بأفلامها، استقبلت في بلادنا كمنافس حيوي وطازج ومختلف عن السينما الفرنسية التي فضلتها النخبة البرجوازية بسبب اللغة ومذاقها الرومانسي وجنوح سيناريوهاتها نحو الحوارات الفلسفية التي لا تنتهي، أو السينما الإيطالية البديعة التي تقاطعت مع العادات الشرق-أوسطية، فلم تبدُ غريبة لافي أشكال ممثليها، ولا في مذاقات صلصات الطماطم والحبق وزيت الزيتون، ولا في طقوس العائلة وشجاراتها وكاثوليكيتها وخوضها في العمق الإنساني ببراعة ملفتة.
لن يطول الأمر بتقليد الأزياء التي تألق بها نجوم هوليوود، حيث سيطغي، بل سيقضي لاحقاً بنطال الكاوبوي على كل أناقة سابقة، وسيغزو القماش الأزرق العالم بطوله وعرضه دون منازع . لكن المشهدية الجديدة التي حملتها الصورة في الفيلم الأميركي كانت وفيرة وغنية بتفاصيل أخرى كثيرة، وقابلة للتقليد. وهي مشهدية ذات فلسفة خاصة ترتبط كتصاميم إبداعية بفكرٍ عشق رفاهية الإنسان، ويمكن أن نقول إنها غيرت العالم، حيث سرقت أنظار الناس - عبر هذه الأفلام - إلى تصميم المطبخ الأميركي وسعة مساحته وخزائنه الخشبية الأنيقة، والأمكنة المخصصة لوضع غسالتي الملابس والأطباق، دون أن تفوتهم ملاحظة أن طاولة الطعام وضعت براحة في المطبخ ومنحته إحساساً عائلياً مختلفاً، أو يفوتهم الإعجاب بشكل الأكواب الفخارية (الماغ)، أو تلك العلبة الخشبية المربعة التي تحتوي على عبوات الخردل والكاتشاب وصلصة(HP). وبناء عليه، فتحت الورشات في أغلب البيوت للتخلص من تلك المطابخ القديمة الضيقة، واستبدلت بـ(مطبخ أميركي)، وهو الاسم التجاري المستخدم في سوق إكساء المنازل حتى اليوم.
لن يتوقف التغيير والتقليد عند المطبخ، بل سيشمل الحمّام و(الشاور)، ويمتد حتى غرفة المعيشة أو غرفة العائلة، وسيتم التخلص من تلك الكنبات الخشبية الثقيلة ذات الأقمشة الخشنة بأخرى تشبه الأرائك المبهجة التي تظهر في بيوت الممثلين الأميركيين. أرائك واطئة ذات وسائد ضخمة محشوة بالقطن، يمكن للمرء أن يغوص فيها وكأنه يسبح في النعيم، دون أن تنكزه خاصرته أو يؤلمه عموده الفقري وهو يلتهم (البوب كورن) ويتابع التلفزيون ويغفو دون أن يضطر للنهوض إلى غرفة النوم التي تبدل تصميمها بدورها، وباتت بأسرّة عريضة ووسائد مريحة ونوافذ عريضة وتهوية صحية.
في بعض الدول، ومنها دول الخليج العربي، كان التأثير أكبر بكثير، فشمل تصميم البيت برمته، والسيارات والمولات والمأكولات السريعة والمشروبات الغازية وطرق التسوق وغيرها، وبدت الحياة وكأنها (كوبي- بيست) للحياة الأميركية التي أسست لتفاصيلها وراكمتها المشهدية في الأفلام الأميركية.
متابعة الحديث عن هذه التفاصيل سيطول كثيراً، ليبقى السؤال الذي يلّح بقوة: هل استفاد مقلّدو نمط المعيشة الأميركية من بعض الأفكار والقيم التي تغلغلت في تفاصيل الفيلم الأميركي مثل الحرية والعدالة وحقوق الانسان والديمقراطية ؟؟ أم اكتفوا بتقليد الغلاف وتجاهلوا قراءة السطور ومابينها ؟
المصدر: الحرة