العنوان أعلاه هو نفسه عنوان كتاب للفيلسوف البرازيلي باولو فريري "تعليم المقهورين" صدر عام 1968، وترجم إلى الإنجليزية عام 1970، وترجم مؤخرًا إلى العربية تحت عنوان "نظريات في تربية المعذبين في الأرض" وكان الكتاب سببًا في سجن الكاتب ثم نفيه من موطنه البرازيل، ولكنه كان أيضًا سببًا في ظهور حركة "التعليم النقدي" وانتشارها في أرجاء المعمورة. وضع الكاتب في كتابه قضية التربية والتعليم في العالم الثالث على طاولة النقاش العالمي، حين نادى بالأخذ بالتعليم النقدي (الإشكالي) بدلاً عن ذلك التعليم الذي يزيد في تبعية الشعوب، والذي أسماه التعليم البنكيBanking System ، معتبرا أن القهر أو السيطرة هو السمة الرئيسة للعصر الذي نعيشه، القهر المتمثل في حزمة المعايير والإجراءات والقواعد والقوانين التي تشكل الناس وتكيف طبيعتهم في المقام الأول، ثم تضغط بعد ذلك على عقولهم حتى يعتقدوا أن الفقر والظلم الاجتماعي حقيقتان طبيعيتان ولا يمكن تجنبهما في الوجود الإنساني ولا يتم ذلك إلا حينما يكون النفوذ والسلطة لدى قلة من الناس، والخرافة والوهم في عقول الكل وبنظام تربوي انتقائي غير مستقر ومدارس أداة للمحافظة على بقاء واستمرار الأمر الواقع، وبدرجة عالية من الأمية والأمراض.
يشرح باولو أزمة التعليم في مجتمعاتنا في أنها تعتمد على أسلوب التعليم التلقيني، القائم على وجود طرف مرسل، وطرف آخر يقوم بدور المتلقي والمستمع، تنتهي بملء عقول التلاميذ بكلام ومعلومات أفرغت من محتواها، ولا تثير، أو تستثير عقول هؤلاء التلاميذ المتلقين، حيث يقتصر دور الطلاب في هذه العملية على الحفظ والتذكر، وإعادة قراءة ما استمعوا اليه، دون أن يتعمقوا في مضمونه، ليتحول الطلاب في هذه العملية إلى مجرد بنوك تودع فيها المعلومات والبيانات.
هذا ما أسماه المفهوم البنكي للتعليم، الذي تَحدَّدَ فيه دور الطالب كمستقبل للمعلومات فقط، يملأ بها رأسه ويخزنها دون وعي، مبيناً أن أهم ما يميز هذا النوع من التعليم هو لهجته المتعالية، وعدم قدرته على إحداث التغيير، فالطلاب ينحصر دورهم في الحفظ والتذكر، وإعادة الجمل التي سمعوها دون أن يتعمقوا في مضمونها. وليس من هدف لهذا التعليم التلقيني سوى تعويد الطلاب على التذكر الميكانيكي لمحتوى الدرس، وتحويلهم إلى آنية فارغة يصب فيها المعلم كلماته الجوفاء.
وإذا ما ظل المعلم قادرا على القيام بهذه المهمة، كان ذلك دليلا على كفاءته، وإذا ما ظلت الأواني قادرة على الامتلاء، كان ذلك دليلا عل امتياز الطلاب. وهكذا يصبح التعليم ضربا من الايداعdeposit ، يتحول الطلاب فيه إلى بنوك، يقوم الأساتذة فيها بدور المودعين، حيث لم يعد الأستاذ وسيلة من وسائل المعرفة والاتصال، بل أصبح مصدر بيانات، ومودع معلومات، ينتظره
الطلاب في صبر، ليستذكروا ما يقوله، ثم يعيدوه. ذلك هو المفهوم البنكي للتعليم الذي تحدد فيه دور الطالب، كمستقبل للمعلومات، يملأ بها رأسه ويخزنها دون وعي.
اسلوب تعليمي متعال سلطوي يعيق فرص الابداع والتطوير عند الإنسان، ويحرم عقله من ممارسة حق السؤال والتساؤل، لأن كسب المعرفة والتطور عند الانسان إنما ينبثق من الابداع الذي هو وليد القلق المستمر، من خلال الإجابة على التساؤلات التي تفرضها حقائق الحياة، والواقع الراهن الذي يعيش فيه، بينما مهمة التعليم البنكي تتركز في تقليل القدرة الإبداعية عند الطلاب، أو الغائها تماما، والقاهرون يتصرفون ويعملون ضد أي محاولة في التعليم تستهدف تنمية الملكة النقدية عند الطالب. إن مهمة التعليم البنكي، كما يكشف باولو، تتركز في الغاء القدرة الإبداعية عند الطالب، من أجل خدمة أغراض القاهرين، الذين لا يرغبون في أن يصبح العالم مكشوفا لهؤلاء، أو يصبح موضوعا للتغيير، فالقاهرون يتصرفون بغرائزهم ضد أي محاولة في التعليم تستهدف تنمية الملكة النقدية، فكلما تحول الطلاب في إطار التعليم البنكي إلى مجرد مخازن للمعلومات، كلما قل وعيهم بالعالم المناط بهم تغييره، فقبولهم لهذا الدور السلبي المفروض عليهم، يعني بالضرورة تأقلمهم المستمر مع الواقع المفروض عليهم، والمعرفة المباشرة التي أريد لها أن تملأ عقولهم.
لذلك يشجع القاهرون مفهوم التعليم البنكي، ويفرضون سيطرة أبوية على النظام الاجتماعي الذي يتلقى فيه المقهور تعليمه، فالناس في نظرهم مجرد أشياء، أو كائنات متأقلمة، وسهلة القياد، حيث يريدون للإنسان أن يتأقلم مع ظروف القهر، وبالتالي السيطرة عليه واستغلال....
وخلاصة القول مَنْ هم القاهرون، ومَنْ المقهورين؟ التعليم الصحيح هو ذلك الذي يعمد إلى حل وإزالة التناقض بين الأستاذ كسيّد، وتلميذه كعبد، إلى صيغة ومعادلة مختلفة، يصبح فيها الطرفان أساتذة وطلابا في ذات الوقت، بعيداً عن أسلوب التعالي والتكبر والعلو.