السجال الذي دار بين رئيس مجلس النواب ووزيرة التنمية الاجتماعية السابقة على احد المواقع الإخبارية حول إلغاء المادة (308) من قانون العقوبات يستحق الانتباه لسببين: الأول أنه يكشف نوعية الحوار بين طبقة “النخبة” سواءً اكانوا مسؤولين حاليين او سابقين، والنوعية هذه لا تختزلها كلمات مثل “صح” النوم وانما تعكسها اللهجة الانكارية التي حفل بها أحد الردود، أما السبب الآخر فهو ان السجال يكشف أيضاً اتساع هوة “الخلاف” داخل المجتمع بين المؤيدين والمعارضين لإلغاء المادة (308) وهو خلاف يتجاوز المواقف المألوفة بين تيارين احدهما محافظ وآخر ليبرالي الى داخل التيار الليبرالي نفسه وهو ما سجلته الوزيرة السابقة وما نأى عن الخوض فيه رئيس مجلس النواب الذي دافع عن الإجراءات التي اتخذها النواب في إقرار الإلغاء دون ان يتطرق الى المضامين والانعكاسات.
لدي ملاحظة تتعلق “بالانفعال” الذي تعكسه الحوارات والنقاشات التي تجري في بلادنا، ابدأ هنا بالبرلمان وما شهده من حدة في التعاطي مع ملفات هامة ، فقد انتهت المواقف النيابية بعد حادثة “السفارة” مثلا بإعلان احد النواب عن “المنازلة” مع مسؤول إسرائيلي، وكنت أتصور ان المسألة لا تتجاوز الاعلام او انها مجرد نكتة عابرة، لكنها تطورت لدرجة ان الطرفين وصلا للمكان المتفق عليه “الجسر” وتبادلا الاتصال مع بعضهما، ثم انتهت الجولة بانسحاب أحد الطرفين، خذ ايضاً ما حدث اثناء مناقشة التعديلات على قانون العقوبات (المادة 308 تحديداً) حيث اتسمت النقاشات داخل القبة وعلى الشرفات “بالانفعال” وكأن مصير مجتمعنا يتوقف عند بقاء او الغاء هذه المادة، او كأن الذين احتشدوا لإعلان الانتصار بإلغائها قاموا بواجبهم في الدفاع عن حقوق الانسان ولم يبق الا حق “المغتصبة” التي سمح القانون السابق لمغتصبها من الزواج منها.
لا أحتاج بالطبع لمن يذكرني بأن لدينا العديد من القضايا والملفات (الازمات إن شئت) التي تضغط على أعصابنا، واخشى ان أقول انها تخنقنا، سواء ازمة الاقتصاد والمديونية والعجز والضرائب التي تطل علينا برأسها كل عام، وما يترتب على معيشة الناس من ضيق وضنك، او ازمة السياسة التي تعطلت اسنان عجلاتها وتحول بعض النخب الفاعلين فيها الى عبء إضافي عليها وعلى المجتمع، او ازمة الكساد الاجتماعي الذي يمكن ان تختزله ارقام العنوسة في مجتمعنا حيث تجاوزت اعداد النساء (فوق سن 30 عاماً) ممن لم يتزوجن واعداد الارامل حاجز المليون.
لا احتاج ايضاً لمن يذكرني بالتهديد الذي يحاصرنا من كل اتجاه، تهديد داعش الذي استنفر، وخلايا الإرهاب التي اجتازت امتحان التطرف وبدأت تتململ داخلنا، وملف “التسوية” الذي ركبته إسرائيل لتفرض علينا ما تريده من حلول، وملف “المساعدات” الذي يبدو انه أصبح مقفلاً، وملف إيران التي أصبحت رقم (1) في المنطقة.
السؤال الذي يحب الا يغيب عن اذهاننا هو: بأي منطق يفترض ان نواجه هذا الواقع المزدحم بالأزمات والهواجس والتحديات...؟
لدينا -بالطبع- ثلاثة خيارات على الأقل، او إجابات إن شئت، الخيار الأول: منطق الحكمة والفهم بما يترتب عليه من قرارات هادئة وحوارات جادة وجبهة داخلية موحدة ونخب وطنية واعية وامينة، وسياسات عادلة ومقاربات امنية وسياسية مدروسة، الخيار الثاني: منطق الانفعال والتوتر والارتباك والخوف والمبالغة في الهواجس واستخدام الفزاعات، بما يترتب عليه من اشتباك بين الناس ومشاحنات وتصفيات في أوساط النخب وخيبات لدى الجميع، يبقى المنطق الأخير وهو الاسترخاء السلبي، حيث تغيب المبادرة وتجف قنوات التنسيق ويزداد الارتجال والإهمال، وتنتشر ثقافة “انتظر ما في الغيب” او “كل يوم بيومه”.
لا انتظر ان يسألني أحد عن الخيار الأفضل، فهو معروف للجميع، لكن بقي لدى كلمة أخيرة وهي: ان ما نراه من صور ونسمعه من أصوات وصراخ في مجالنا العام، يجب ان يقودنا الى حقيقة واحدة وهي ان ساعة “الحكمة” لا بدّ ان تدق، والاّ فإن ما ينتظرنا سيكون أصعب مما نتصور.الدستور