لكم أتمنى أن أعيش في “عمان” التي يتحدث عنها المسافرون في بلاد الغربة، باسهاب ملؤه الشجن والعاطفة والألوان!
كنت في أكثر من مرة مسافرة مثلهم لفترات ليست قصيرة، واكتشفت بأن عمان حين تكون بعيدة عن العين، تكون إلى القلب أقرب. واليوم وأنا أسهر كل ليلة على مواويل المغتربين الذين لم تسنح لهم الزيارة هذا الصيف، أستعجب من تفاصيل حلوة وقصص طيبة تحكي عن المدينة التي نعيش فيها، وكأنها في كوكب آخر.
المحير، أن غالبية إن لم يكن جميع هؤلاء الذين ما يزالون يحتفظون بذاكرة الألوان الباهتة، التي تشبه أفلام السبعينيات، وحين تطأ عجلات “الملكية” والتي لها هي الأخرى مكانة ليست بسيطة في حكاياهم عن الوطن والدفء والحنين، يخرجون كما كل عام، إلى مدرج الحقيقة الصعبة؛ عمان شيء آخر!
والمحير أكثر أنهم وهم في طريق عودتهم إلى “هناك” يلملمون من على الطريق صور الحنين القادم، ويبدأون بالبكاء على عمانهم، وهم في قاعة انتظار الشخصيات المهمة.
كلهم وبعد اليوم الأول من السلام والترحيب، يمارسون على أنفسهم وعلينا رياضة المقارنة إياها وأحيانا المعايرة إياها، والتي تنحاز دائما لبلاد يحترم أهلها القانون المطبق على الصغير قبل الكبير. بلاد تنمو بالنظام وشعوب تعلمت الاحترام. بلاد نظيفة جميلة ثرية متعلمة متحضرة، صوتها خفيض مؤدب وملامحها رقيقة وبشرتها ناعمة. بلاد لم تسمع بالمصلحة والواسطة والرشوة والتعدي على القانون. بلاد التكنولوجيا والمؤسسات الإلكترونية ومطاعم البرغر الأميركية التي ويا للعجب لم تفتح فروعا لديها في عمان بعد!
هولاء، من أين يجيئون بصور الياسمين المتشعبط على الأسوار، ورائحة التين المندى في الصباحات الباكرة، حين يدلفون أبواب بيوتهم الصغيرة هناك، ويفتحون شاشات أجهزتهم الذكية؟ أين سمعوا بالضبط صوت الجارة تطلب حفنة شعيرية للأرز، وأين اشتموا رائحة المكسرات المحمصة؟ هؤلاء كيف يلملمون في ذاكرتهم أياما لم نعتقد أنها باتت تهمهم أصلا، لتكون ملاذهم الدافئ ومونتهم الشتوية، يسكبونها سحلبا ساخنا، أو قرفة مغلية في أيام تستدعي الاشتياق سوطا مسلطا على متلازمة الإختناق!
هناك، وبعد أن ينتهوا من حفل النميمة على الأخلاق التي تراجعت، والمطاعم التي تكاثرت، عن الزحمة في الشوارع وسعر الفلافل السياحي، وظاهرة الأراجيل عند النساء، وصبي القهوة الذي “خلص” المعاملة بربع ساعة وعشرين دينارا في جيب معلمه. عن مصطلحات إنجليزية مضحكة، وثقافة أزياء متأخرة، عن جرأة الأولاد على أبواب المولات، وماكياج البنات الرخيص. عن الأهل الذين اتصلوا وآخرين لم يكلفوا أنفسهم عناء السؤال، وعن الأصحاب الذين وياللهول، انشغلوا في دواماتهم طوال عطلة الصيف، فلم يروهم إلا خطفا في سهرات غلب عليها التثاؤب والتعب.
بعد هذا، يقفلون على أنفسهم الأبواب كلها، ويفتحون شراعة الذكريات على شاشاتهم الزرقاء. يبكون بحرقة لاحة جندي أسمر، ابتسم بلطف على بوابة المطار ودعا لهم بالسلامة.
يناجون أصواتهم العالية المتناثرة في الأمكنة تشتم الحكومات وتتحدث في السياسة، يتفهمون ظروف ناسهم الذين انشغلوا عنهم من أجل لقمة العيش، يقرون بأن “منيو” مطعم البرغر الشهير لا تضاهي صحن بطيخ وجبنة بيضاء في اقترابها من الحقيقة!
أحزن على “عمان” التي تحاول أن تتشعبط على جدران ذاكرتنا كما الياسمين، بأقل ما تحتاجه من ماء، تشتَمُها أعماقنا حين يقرصنا الحنين، وتدار لها ظهورنا بلا أكتراث، ونحن ننتظر سيارة”الأوبر” لتنتشلنا بسرعة إلى المطار!الغد