الأدوار الإقليمية : تكامل لا تنافس
د. رلى الفرا الحروب
05-01-2009 04:19 AM
أظهرت بعض القوى العربية استياءها لاضطلاع تركيا بدور المنقذ وقيام أردوغان بجولة على الزعماء العرب لتنسيق موقف موحد ضاغط يسفر عن وقف العدوان على غزة وفتح المعابر. هذا الاستياء يذكر باستياء سبقه إزاء الدور الإيراني المتنامي في المنطقة، ولا أدري إن كان أولئك المستاؤون من الطرفين قد شاهدوا الشارع التركي والإيراني وهو يتظاهر نصرة لغزة بالملايين، ولا أدري إن كانوا قد شاهدوا دموع الأتراك والإيرانيين تتساقط على أطفال غزة تماما كدموع العرب، ولا أدري إن كانوا قد شاهدوا تلكم الشابات الإيرانيات الجميلات وهن يسجلن أسماءهن استشهاديات للقيام بعمليات تثأر لغزة.
الصحوة في الشارع الإسلامي جاءت متجانسة مع القيادات الإسلامية الديموقراطية التي أفرزتها الانتخابات في تركيا وإيران، وما أردوغان وحزبه إلا جزء من هذا الشارع التركي النابض بالحياة الذي يحترق ألما لألم الغزيين، وما القيادة الإيرانية إلا تمثيل لفئة عريضة في الشارع تأبى الذل الأمريكي الإسرائيلي وتصر على تحقيق معاني الكرامة والسيادة.
لقد دخلت المنطقة مرحلة جديدة تجلت بعض بوادرها بقيام تركيا بدور وساطة بين إسرائيل وسوريا أملا في تحقيق سلام نسفته كالمعهود آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية، وتجلت أماراتها الأخرى الإيجابية منها والسلبية في تأثير إيران في العراق ولبنان وسوريا، أما اليوم فإن ملامح هذه المرحلة الجديدة تغدو أكثر وضوحا مع الدور التركي المبادر لإنهاء الكارثة في غزة.
يقول مسؤول أردني رفيع إن تركيا التي تتمتع بعلاقات ممتازة مع أمريكا وجيدة مع أوروبا وبقية المجتمع الدولي قادرة على التفاوض مع قوى الممانعة في المنطقة وبالذات سوريا وحماس وإيران للوصول إلى حل يوقف العدوان على غزة دون أن تخسر من رصيدها، وهو ما لا تستطيع دول عربية أخرى القيام به خشية أن تدفع ثمنا سياسيا باهظا، وهو من ثم ينظر إلى الدور التركي في نطاق التكامل أي توزيع الأدوار بين دول الإقليم وليس التنافس كما يظن البعيدون عن خفايا الأحداث.
الحكومة الأردنية منذ مطلع عام 2008 انتهجت بدورها نهجا مغايرا بعض الشيء لنهجها السابق الذي كان متلازما أو متطابقا مع النهج المصري - السعودي، وقد تابعنا باهتمام كيف فتحت خطوطا مع حماس بعد طول قطيعة وكيف تصالحت مع قطر ووثقت علاقاتها بسوريا في وقت كان فيه النظامان السعودي والمصري ينظران بريبة ترقى إلى مرتبة العداء إلى تلك القوى الثلاث، كما لاحظنا أيضا كيف أوقفت الحملات الإعلامية الشرسة ضد إيران التي طبعت العامين 2006 و2007 في وسائل الإعلام الأردنية الرسمية منها وشبه الرسمية وكيف حافظت على شعرة معاوية مع الإيرانيين بل وسمحت بفتح بعض خطوط التعاون بين المجتمع المدني الأردني ونظيره الإيراني، وعلى الرغم من أن التعاون على المستوى السياسي ما زال بعيدا ، إلا أنها على الأقل حافظت على علاقة متوازنة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية ولم تتورط في أي تصريحات مباشرة ضدها على غرار ما فعله بعض المسؤولين المصريين والسعوديين.
الملف الفلسطيني كان حاضرا بقوة خلف كل تلك التغييرات المنهجية والطرق البديلة التي حاولت الحكومة الأردنية شقها، وليس من الصعب استقراء حدوث خلافات في وجهات النظر بين الأردن ومصر والسعودية في كيفية التعامل مع ملف غزة وحركات المقاومة فيها وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامي، وليس من الصعب أيضا استنتاج أن الحلول المعروضة على الطاولة فيما يسمى عملية السلام الطويلة المنهكة لم ترض الأردن، وأن تلك الحلول لا تقدم سلاما بقدر ما تقدم تسوية للقضية الفلسطينية أو تصفية لها سواء كانت على حساب الأردن أو لم تكن.
القيادة الأردنية خلافا لكثير من القيادات العربية الفاعلة تنظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها جزءا من أمنها الوطني والقومي ، وتعتبر قيام الدولة الفلسطينية القابلة للحياة مصلحة وطنية عليا، تماما كما صرح رئيس الوزراء نادر الذهبي بالأمس من تحت قبة البرلمان، وهي على النقيض من قيادات أخرى في المنطقة لا تستخدمها كورقة تفاوضية لتعزيز موقف أو الحصول على مكاسب، ولكنها تعتبرها جزءا لا يتجزأ من ثوابتها السياسية واستقرارها الداخلي، ورغم بعض اللحظات الحرجة العصيبة التي مرت بالأردن وطبعت علاقته مع بعض التنظيمات الفلسطينية، إلا أن القيادة بقيت على الدوام بعينين: عين على الأردن وأخرى على فلسطين، ومن هنا يمكننا فهم تباين الموقف الأردني مع الموقفين المصري والسعودي إزاء الكارثة الحالية في قطاع غزة.
عندما يعلن رئيس الوزراء الأردني من تحت قبة البرلمان أن الأردن منفتح على كل الخيارات السياسية ومن بينها إعادة النظر في علاقاته مع كل القوى في المنطقة ومن بينها إسرائيل، فإن هذا يرسل برسائل بالغة الأهمية ليس إلى أمريكا وإسرائيل والاتحاد الأوروبي فحسب، بل إلى ما اصطلح على تسميته " محور الاعتدال العربي"، فها هي الدولة الأكثر اعتدالا (بمفهوم الاعتدال الإيجابي وليس السلبي المرتبط بالتبعية للمشروع الأمريكي – الإسرائيلي) تعلن أن الوحشية الإسرائيلية قد تجاوزت كل الحدود وأن سلوكها المشين غير المقبول بات يستوجب وقفة سياسية ودبلوماسية وإعادة نظر في العلاقات ضمن الخارطة الإقليمية والدولية كلها.
هذا التصريح الذي يأتي فريدا من نوعه منذ توقيع معاهدة وادي عربة قد يعتبره البعض إحراجا للموقف المصري، ولكنه في الواقع رسالة تذكرة وتوعية ونصح تنبه بعض الغافلين الماضين في غيهم إلى خطورة اللحظة وخطورة التبعات المترتبة عليها شعبيا وسياسيا وعسكريا واقتصاديا واجتماعيا.
عندما يتخذ الملك عبد الله الثاني والملكة رانيا العبد الله مواقف صريحة جريئة تدين العدوان الإسرائيلي دون هوادة وتنتقد الوضع الإنساني المتردي في القطاع وتعتبره لا يمكن السكوت عنه خلافا للكثير من الزعماء العرب الذين جاءت تصريحاتهم متخاذلة واهنة طيلة الأيام العشرة الماضية، بل وطيلة الأعوام السبع الماضية التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر المشؤومة، فإنها ترسل برسائل سياسية واضحة إلى كل القوى المعنية أن الأردن له خصوصية جغرافية وديموغرافية وتاريخية ودينية وسياسية لا تمكنه من قبول ما قد يقبل به البعض مهما يكن الثمن.
عندما تكون الأردن من بين الدول العربية القلائل التي تماهت فيها القيادة مع نبض الشارع والبرلمان والجيش والأجهزة الأمنية واحتضن الجميع خيارا واحدا لا بديل عنه هو نصرة الفلسطينيين المحاصرين في غزة ووقف العدوان الإسرائيلي البربري والمطالبة بحماية المدنيين والأطفال والنساء وفتح المعابر لإدخال المعونات الإنسانية ودعم صمود المقاومة فإن النظام يبعث برسائل واضحة لإسرائيل وامريكا وأوروبا والقوى العربية المعنية بأنه لا يمكنه أن يساوم على ثوابته المبدئية، ولا يمكنه أن ينخرط في مشاريع لا تعيد الحد الأدنى من الحقوق مهما يكن حجم الوعد أو الوعيد.
نلتف حول القيادة الهاشمية في هذه اللحظة الحرجة من عمر الأمة ونصر على دعم صمود الفلسطينيين على أرضهم ونصرة مشروع المقاومة لا باعتباره نهاية المطاف بل طريقا للتفاوض وتحقيق الأهداف والوصول إلى سلام دائم وعادل وشامل يحقق الحد الأدنى من الكرامة العربية والإسلامية ويعيد الحقوق إلى أصحابها في إطار القوانين والقرارات والتوصيات الدولية المقبولة عربيا، وليس في إطار المواقف المتخاذلة الأخيرة لمجلس الأمن والرباعية الدولية.
اليوم الذي تعيشه غزة ونعيشه معها سيكون له ما بعده، وقد آن الأوان لأن يفهم أنصار الواقعية الانهزامية أن المقاومة والحروب هي ما يصنع السلام المشرف المقبول أما المفاوضات غير المستندة إلى عناصر القوة فلا تصنع إلا استسلاما ولا تثمر إلا عن تسويات مخزية مذلة مهينة يتقدم فيها الطرف القوي ليلتهم كل الكعكة ثم يلقي لنا منها بالفتات.الانباط.