يكتب : سؤال النقل والازدحام المؤرق .. كيف نستفيد من طبوغرافيا عمّان؟
المهندس عامر البشير
07-08-2017 12:19 PM
* أعبّرُ قبلَ أي شيء عن اعتزازي الشخصي بكلّ التقييمات والملاحظات التي أثرَت نقاشاً موضوعياً قد يكون الأولَ من نوعه عبر وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي حول ملف " النقل العام... احتياجاته ومشكلاته " فبعد أربع مقالات في التفاصيل، هنا يمكنُ رصد بداية اتجاه النقاش العام نحو الإطار الصحيح بصورةٍ تؤدي لحراكٍ مهنيّ مطلوب.
اشتباك الخبراء على قاعدة حُسن النوايا مع الأفكار المُنفتحة وحراك المهنيين، مؤشراتٌ حيوية على بدايةِ صحوةٍ في إدراك، ليس فقط حقيقة التحديات والمشكلات، ولكن أيضاً –وهذا مهم- الحاجة المُلحة لاستراتيجيةٍ عميقةٍ وطويلة الأمد؛ لمواجهةِ مشكلة الاختناق المروري التي تتزايد يوماً بعد يوم، وتكشفُ عن كلفةٍ باهظةٍ اقتصادياً واجتماعياً وبيئياً، لغياب منظومة النقل الحضري.
هنا الفرصةُ متاحةٌ للتذكير بأنّ التركيزَ على افتتاح المزيد من الطرق لمعالجة الإزدحامات المرورية دون رؤية وخطة شمولية، قد لا يحقّق النجاحَ المُتوقع والمأمول؛ لأنه على نحوٍ أو آخر يعالجُ أعراض وقشور المشكلةِ وليس الأزمة نفسها.
لا زالت أساليب معالجة الإزدحامات المرورية في عمّان دون المطلوب وتحتاج لتعزيز واستكمال البنية التحتية، في إطار خطةٍ استراتيجية تعكسُ حاجات المدينة التخطيطية والشمولية، بالإضافة لتعديلاتٍ على قوانين السير والمرور وبرامج تثقيف وتوعية للسائقين، ومجموعة من الأمور سنتناولها في مقالتنا هذه، والتي تحتاجُ إلى وقتٍ طويل "على الأرجح" ومستمر، قبل أن تأتيَ بنتائج ملموسة ودائمة، ولكن ما حقّقته هذه التجارب والمحاولات السابقة، يدفعنا إلى التفاؤلِ بإمكانية التوصّل لحلٍّ جذريٍ لهذه الظاهرة المُقلقة في المنظور القصير والمتوسط والبعيد الأمد.
عندما يتعلقُ الأمر بالمنظور طويل الأمد وخصوصاً في مجال توفير خدمات نقل عام متطورة في مدن الكثافة، مثل عمان والزرقاء وإربد، يمكن القول بأنّ الأساس في أيّ منظومةٍ هنا أن تنشط على خلفيّةِ ضبط كلف الاستثمار الرأسمالي في الحلول والاستملاكات، حيث أنّ باص التردد السريع محطةٌ مهمةٌ في درب تطوير وإصلاح منظومة النقل الحضري وليست جلّ الحلول.
أيّ منظومة مقترحة هنا ينبغي أن تكون مكملة للخططِ الشمولية، وهذا يعزّزُ قناعتنا بـأهمية الإبقاء على صندوق دعم خطوط النقل العام، كما ورد في القانون الذي أقرّ حديثاً بهدف تأمين ما يلزم من نفقات، واستكمال الدراسات ومتطلبات البُنية التحتية التي تتكلّفها أمانة عمّان، واستكمال خطوط النقل الحضري الجماعية المغذّية لمسار باص التردد السريع، وتعويض كُلف مقاعد الحافلات الفارغة من خلال نموذجٍ تشغيليّ ذكيّ بالشراكة مع القطاع الخاص، يُدار على أسسٍ تجارية، وبأدواتٍ إلكترونية ذكية، بغض النظر عن نسب إشغال مقاعد الحافلات كما ذكرنا سابقا.
في التفاصيل كنا قد أسهبنا في الحديث في المقالةِ الماضية عن رفعِ الضغط عن الطريق الدائري المار بالدوار الرابع وشارع الأمير هاشم وشارع وادي الرمم، والعودة من خلال شارع الاستقلال أخيراً، وأهمية إحياء واستكمال طرقٍ دائريةٍ تتكامل معه في تصريف الكثافة المرورية تساند الطريقَ الدائري الأوحد داخل قصبة المدينة.
وفي ظلِّ التطوّر الحاصل في صناعة تكنولوجيا حفر الأنفاق التي تخترق الجبال بكلفٍ أقل من كلف الاستملاك، والجسور المعلّقة الذي توفّر أيضاً من كلف التعويض، يمكن الاستفادة من الميزة النسبية لطبوغرافية قصبة المدينة بصورةٍ تخدم هذا النهج.
وأيّ توجّهٍ لفرض رسومٍ مالية على استخدام الطرق يجب ألا تُـقـرّ بأي حالٍ من الأحوال إلاّ بعد إنجاز كافة الطرق الدائرية، وحسب مُخرجات وتوصيات المخطط المروري لمدينة عمّان.
وفيما يتعلق بالمدى القصير والمتوسط، لا بدّ من إعادة هيكلة مواقف السيارات على جوانب الشوارع المحورية وإبقائها على جهةٍ واحدة للشوارع الأقل أهمية مرورياً، والسماح فيها على جهتين بالشوارع الداخلية، بعد تخطيط الشوارع لهذه الغاية، ولا بدّ من منح حوافز سخيةٍ للقطاع الخاص؛ لتأمين مواقف سيارات أكثر من خلال منح حقوق تطويرٍ إضافية (استعمالات ومساحات تزيد عن أحكام التنظيم) للمستثمرين في القطاع العقاري وفي قطاع الإسكان، حتى تتحقّقَ جدوى اقتصادية لهذه المشاريع، بالإضافة إلى تشجيع الاستثمار مع أمانة عمّان من خلال تقديم أراضٍ تملكها الأمانة؛ لإقامة مواقف سيارات عامة بالشراكة مع القطاع الخاص، والاستفادة من ملكيات الأمانة ما أمكن بما فيها أسفل الشوارع الرئيسية وأسفل الحدائق، بالتوازي مع توفير أنظمة تستخدم مستشعرات إلكترونية لإبلاغ السائقين عن أماكن اصطفاف فارغة من خلال ربطها بأنظمة ذكية، وذلك بعد إنجاز مواقف السيارات العامة، ويجب عدم فصل سياسة التكثيف العمراني التي تُقام على الطرق الشريانية والشوارع المحورية، دون توفير أعدادٍ إضافيةٍ من مواقف السيارات ضمن القطع المحاذية والمراد إقامة مشاريع عليها بحوافز سخيّة أيضاً، وإلغاء أي وقوفٍ على طول الشوارع المرورية والرئيسية بهدفِ تحرير أكبر عددٍ من المسارب.
التجارب الذكية التي اطلعنا على بعضها تثبتُ بأنّ اجتراحَ بعض الحلول المرورية البسيطة غير المُكلفة لا يقلّ أهميةً عن الحلول المرورية الكبرى أو مرتفعة الكلفة، وبمجموعها سيصنع فرقا، مثل توفير مسالك تخزينية إضافية عند بعض مواقع الاختناقات المرورية وعند مداخل ومخارج التقاء طرق فرعية مع رئيسية، أو رئيسية مع رئيسية. ومنها على سبيل الذكر لا الحصر، توفير مسربٍ إضافي أو مسربين إضافيين لاستقطاب كثافة المركبات النازلة من مجمّع جبر عند التقاء شارع مكة وشارع المدينة المنورة، على المنسوب العلوي الداخل إلى جسم ميدان الحرمين، بهدف تحرير تدفّق السيارات جنوباً باتجاه شارع زهران وفي النفق السفلي شرقاً باتجاه أم أذينة على طول شارع مكة، أو من خلال توفير مسارات طرق خدمة أمام قطع الأراضي التجارية ومتعددة الاستعمالات، وفصل حركة سيارات المتسوقين تماماً عن التدفق المروري العابر في هذه الطرق.
كذلك مثل المعالجة المرورية عند مدخل مدينة الحسين الطبية على شارع الملك عبد الله الثاني، الذين نجحَ في معالجة الاختناق نتيجة فصل التدفق المروري العابر أمام المدخل الرئيسي عن حركة السيارات الواردة لها، مع بداية ونهاية مواعيد الزيارة ودوام موظفي المدينة الطبية، كما يمكن فصل حركة المرور إلى سفلية وعلوية لبعض الطرق، على سبيل المثال: توفير طريقٍ علويّ ستة مسارب باتجاهين يحتوي مسارات مُخصصة للباص السريع على طول شارع المدينة المنورة، الواصل من شارع الملكة رانيا "الجامعة" إلى شارع زهران؛ لفصل التدفق المروري العابر والوارد لمدنية عمان من جهة الشمالية عن حركة المتسوّقين في الشارع نفسه؛ لإعادة الوظيفةِ المرورية وتحسينِ التصنيف المروري لهذا الشريان الحيويّ وأحد مداخل العاصمة المهمة.
نتحدثُ هنا عن ضرورةِ الاستمرار في إنشاء الحلول المرورية من أنفاقٍ وجسور مع الأخذ بالاعتبار شريحة النقل العام؛ لتتوافقَ مع مخرجات المخطط الشمولي وأهمية عكسها على المشروع المروري للمدينة، وترتيب أولوياتها بما يتناسبُ مع مشروع النقلِ الحضري، ويلاحظ تدنّي عدد هذه المشاريع حالياً، مقارنةً مع ما كان ينجز سابقاً، ففي العام 2008-2009 تمّ إنجاز أكثر من عشرة مشاريع وحلول مرورية من أنفاقٍ وجسور، تفاوتت كلفتها من ثلاثة ملايين دينار في نفقي النهارية بالقويسمة والنصر، إلى ما يزيد عن عشرين مليون دينار في الحلّ المروري لمدخل مرج الحمام. حيث لا بدّ من الاستمرار بنفس وتيرة العمل والزخم في هذا المجال.
إنّ إعادةَ دراسة استعمالات الأراضي على الشوارع الشريانية الرئيسية للمدينة، ومسارات خطوط النقل العام، وتقييد منح رخص مهن ذات أثر مروري مرتفع عليها، وهو جزءٌ لا يتجزأ من المعالجات التنظيمية التي تصبّ في علاجِ المشكلة المرورية.
كذلك إعادةُ برمجة الإشارات الضوئية حسب الحاجة؛ لمعالجة التغير الدائم في ميكانيكيات التدفّق المروري الذي يتأثر مع كلّ حلٍ مروري، والذي يعكسُ نظرية الأواني المستطرقة، والاستفادةُ ما أمكن من نظام انسيابيةِ المرور (التدفّق الأخضر)، والتأكد من ربط كلّ الإشارات المرورية في العاصمة والمعمول به في مركز التحكّم المروري التابع لأمانة عمّان في تلاع العلي حالياً، وبحث سيناريوهات عمليّة لحركة السير في عطلة آخر الأسبوع واختلاف التدفّقات المرورية الصباحية عن المسائية.
ونتحدثُ عن رفعُ كفاءة اللوحات المرورية والإرشادية؛ لتشجيع السائقين على سلك طرقٍ بديلة، بهدف توزيع التدفقات المرورية بنفس السويّة في معظم شوارع العاصمة، وتعميم أنظمة التطبيقات الذكية لتجميع الركّاب ممن تتشابه أوقات عملهم ومقاصدهم وأماكن سكنهم، وتجميعهم في سيارات خاصة مما يسهّل تعريفهم على بعضهم البعض، بهدف رفع عدد مستخدمي المركبات الخاصة عن معدّل 1.5 شخص للمركبة الواحدة حالياً.
خلاصةُ قولنا اليوم، أنّ مأسسةَ التنسيق بين أمانة عمّان ودوائر السير والمعهد المروري ومحكمة أمانة عمّان، خطوةٌ أساسيةٌ لضمان تلازم مسار التخطيط المروري وعملياتها ومهام إدارة السير وتطبيق القانون في خطةٍ استراتيجيةٍ مُتكاملة؛ لمعالجة الاختناقات المرورية ولإنهاء تكدّس المركبات في الشوارع، أساسها التخطيط وتخضع للتقييم بشكلٍ دوريّ ومستمر... والله الموفق.
*المهندس البشير عضو مجلس النواب السابع عشر ورئيس لجنة النقل والخدمات العامة سابقاً...