يوم الجمعة بعد الصلاة ، تبدأ السيارات بالاصطفاف على أكتاف الأحراش وعلى جانبي الشارع، تختبئ تحت ظل الشجر الطويل الوارف ، تُنزّل أمتعة الرحلة ويقفز الأولاد فرحاً..وثمّة ظل يمشي على الإسفلت الساخن في يده حقيبة ملابس وينظر الى السيارات ، يؤشر لأي منهنّ علها تقلّه إلى أقرب نقطة مأهولة...
أكثر ما كان يحزنني عندما أرى عسكرياً أو شرطياً يوم الجمعة يحمل حقيبة فيها ملابسه ووجبته الطازجة متوجهاً إلى مركز العمل أو المعسكر البعيد ..يقف على الأوتستراد ،تاركاً خلفه ضحكات الأولاد ، قيلولة المساء، جلسة «تالي النهار» ، ولمّة «الأخوات» في مساء الخميس ، يمشي تحت الشمس اللاهبة يسبقه ظله الأسمر نحو الواجب ،الطاقية في الظل تشبّه قبّة المسجد والحقيبة صندوق أحلام تمشّطه الحصى وسُمرة الطريق..يمشي وحيداً والسيارات تمرّ مسرعة خلفه في يوم عطلة طويل ، لا يؤنسه في المدى سوى دحرجة بعض الأوراق الهاربة من زفير زوبعة وتلويحات شجر السرو البري حارس المكان وصديق عابري السبيل...كلما رأيت هذا المشهد ،مشهد العسكري الذاهب إلى معسكره يوم الجمعة..دعوت الله أن يحمي الخطى والطريق و»قبّة» الظل التي لا تغيب..
جعفر الربابعة أيضاَ مشى كثيراً على الإسفلت الساخن وبيده حقيبة ملابسه في أيام الجمع، وغادر البيت ، وغادر جديتا ، وانحنى لقطوف العنب التي اهتزّت كأجراس وداع في خروجه الأخير في إجازته الأخيرة ، جعفر الربابعة ككل العسكر ، لا يأبه بقيلولة الجمعة ولا برحلة العائلة ، ولا بدرجة تبريد المكيّف..فعلى الطريق الطويل ،وعلى امتداد الأوتستراد، هناك زفير زوبعة وتلويحات شجر السرو ستسلّيه حتى تتيسّر له سيارة تقلّه الى مجمع حافلات قريب...
أبناء الحرّاثين..لا يكتبون الرسائل في الحبر وإنما بالدم...أبناء الحرّاثين ومنذ ولدوا على البيدر..يعرفون أن الأرض دفتر والمحراث قلم والعرق والدم خليط الكتابة الوحيد ..أبناء الحرّاثين في عيشهم رسالة ، في تضحيتهم رسالة ، حتى في موتهم رسالة..على كرسي جعفر الشهيد .. استراحت «قبّة الظل» من المسير، ورفعت للشرف قبّعة الكرامة، على الكرسي رشّة دم وربطة خبز و»بوريه»...وكأن جعفر يكتبها بصمت : نحن لا نحتاج كثيرا حتى نــُفهم...فــ DNA الوطن :
(خبز ودم وكرامة)...
الرأي