جميلٌ أن يتداركَ المرءُ ويتعلم من أخطائه لأنه لا يُلدغ المؤمن من الجُحرِ مرتين، ولكن ألا يُصرَّ المرء على عدم التعلم فتلك طامةٌ ومصيبةٌ كبرى.
فالناظرُ لحالِ مشرقنا سيفهم أن الفوضى هي أصلُ الأحداث وغايتها، سيفهم بأن الدول الكُبرى تَعدُّ خرائط شيطانية لتقسيم المشرق من خلال إحداث ارتجاج وفوضى، كالحروب وذلك خدمة كبرى لصُنعِ الاستقرار الذاتي لبعض الكيانات ومنها الكيان الصهيوني " ذلك السرطان الذي أوجدته بريطانيا وزرعته بيننا " وبذلك تكون قد قسّمت مشرقنا الذي هو أصل الحضارات ومنبع الرسالات وأيقونة القداسة.
بعد أيامٍ وأسابيعٍ من الجدال والانتظار وقطع الشك باليقين لتوضيح موضوع البيوعات الأخيرة والتي أعلنت عنها صحف إسرائيلية وأنكرتها البطريركية تارةً، وتارةً أخرى أكدتها على لسان محامي البطريركية الذي سبق له الاجتماع قبل إصبعين باللجنة التنفيذية مؤكداً لهم صحة إتمام عملية البيع لصفقة ما عرف بــ "رحافيا "، ولكنها تُطلُّ علينا قبل أيام بطريركية الروم الأرثوذكس ببيان جديد تم نشره يوم الإثنين 31/7/2017 بياناً تُبشرُ فيه رعيتها بخسارة قضية باب الخليل لصالح شركات استيطانية صهيونية وبأحقيتها تمديد عقود الحكر لمدة 99 عاماً جديدة بعد أن أعلنت أنها أبطلت الصفقة ذاتها التي أبرمها البطريرك المعزول " إيرينيوس الأول " في جريدة الرأي الصادرة بتاريخ 28/1/2008 وكأنها صرّحت لنا بشيء جديد، فالمتابع للقضية الأرثوذكسية وطريقة إدارة الكنيسة وأوقافها يعرف تماماً أن ما صرحت به ليس بجديد وما كانت تلك السنوات التسع منذ إعلانها لأول مرة بإبطالها لتلك الصفقة وتصريحها قبل أيام بخسارتها إلا وسيلة تشتري بها صمت الأحرار الوطنيين من أبناء هذه الأرض المعذبة لتمرير المزيد من الصفقات مستغلةً طاعتهم للكنيسة.
جاء ذلك البيان بُعيد البيان الذي تم نشره يوم الأحد 23/7/2017م والذي كان اعترافا واضحاً منها لإتمام عملية البيع لأرض رحافيا معللة ذلك بعدد من النقاط: منها أن هذه الأرض قد اشترتها الكنيسة وليس إرث الآباء والأجداد، ولذا "أعطت البطريركية لنفسها الشرعية بالتصرف بتلك الأملاك كونها ليست من إرثنا نحنُ أبناء هذه الأرض "، بالإضافة إلى أن الأرض "رحافيا" كانت زراعية مهملة وغير مستغلة من قبل الكنيسة أو حتى أبنائها وليست ذو قيمة تاريخية ولذلك سهلت من عملية الاستغناء عنها والاستيلاء عليها من قبل الصندوق القومي اليهودي، وهناك الكثير من النقاط التي احتملها البيان والتي كانت غير منطقية وبعيدة كل البعد عن الواقع، وكذلك تم الكشف عن صفقات يافا وقيسارية وميدان الساعة وما خُفي أعظم، وما هي إلا مسألة وقت لتصفية باقي الأوقاف الكنسية وربما أديرتها وكنائسها .
وبالعودة إلى أسباب ما تعيشه البطريركية اليوم والأمس القريب وضياع الأوقاف وهجرة الأبناء فإن ذلك يعود إلى العام 1534 حيث تسلم إدارة البطريركية الرهبان اليونان بواسطة الاحتلال العثماني للأراضي المقدسة منذ تسلم البطريرك جرمانوس البيلونسي عام 1534 الذي قام بــ يوننة البطريركية، على اعتبار أنهم " الرهبان اليونانيين "يأتون إلى كنيستنا المقدسية أطفالاً وشباباً بعدما قضوا طفولتهم في بلادهم، تستقدمهم الرئاسة الروحية بناء على تعليمات قانون أخوية القبر المقدس الجائر بحق أبناء الرعية الأرثوذكسية في الأردن وفلسطين وبلاد الانتشار لبطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية والذي يمنع دخول أبناء الرعية الأرثوذكسية بدخول السلك الرهباني .
وكما يُشارك في إدارة البطريركية محامون ووكلاء ليسوا من أبناء الرعية الأرثوذكسية، وليسوا من خراف السيد له المجد، يمثلون الكنيسة في التحدث باسمها ويشاركون في المؤتمرات الخارجية ويُمثلون المدعو بطريركاً في العديد من الأمور التي تخص الكنيسة حتى وصل الأمر أن يمثلوه في الاجتماع مع أبناء رعيته المؤتمن عليهم من الله، وهنا أتساءل " أيعقل أن تفتقر الكنيسة المقدسة والتي تضم عشرات العشرات من الآلاف من أبنائها الأرثوذكسيين في الأردن وفلسطين حتى يمثلها من لا نعرفه ولا يربطه شيء بالكنيسة سوى أنه يعمل تحت إمرة المدعو بطريركاً ولربما العكس تماماً ؟! وهنا يتضح الدور القذر الذي يقومون به من لا تمتهم صلة بالكنسية سوى مصلحتهم تماماً كسيدهم وشريكهم في التفريط بالأوقاف الكنسية بصفته الشخص الوحيد ومنفرداً الذي يحق له التصرف .
فهل يُعقل أن يكون هؤلاء أكثر غيرةً وحفاظاً على الكنيسة وأوقافها أكثر من أبناء الأرض الوطنيين الذين كابدوا المشقات لتبقى أم الكنائس صامدة، حيث أن المتابع لتاريخ الكنيسة المقدسة سيعرف أن الأوقاف والأديرة قد تعرضت لغزوات ومحاولات مصادرة من قبل العديد من الِملل كــ اليهود والرومان وممن كانوا يحاولون السيطرة على أية وقف للكنيسة الأرثوذكسية، ولكن صمود أبناء الأرض من الوطنيين كانت كفيلة في صد الهجومات ضد الكنائس والأديرة والأوقاف، كما أن التبرعات التي كان يقدمها المحسنين والمقتدرين والتبرعات الخارجية، وكذلك التبرعات التي قدمها أبناء شرق الأردن وخصوصاً هبة أهل الكرك لإنقاذ البطريركية في فترة من الفترات كانت كفيلة ومصيرية في تسديد ديونها واستعادة الأديرة التي صادرها البعض من المِلل التي كانت وما زالت تتطلع للسيطرة على الأوقاف الأرثوذكسية كانت قادرة على ترميم بعض الكنائس وصيانة كنائس أخرى والتي كانت مهددة للمصادرة من قبل البعض نتيجة مصالحهم القائمة مع السلطة الحاكمة من الرومان أو العثمانيين أو الدول والممالك التي مرّت على الأرض المقدسة.
والناظر إلى حال كنيستنا اليوم فإنه يرى أن المصالح ما زالت قائمة ولكن بطريقة أخرى أكثر قذارة من سابقها حيث أن من لا يعرف قيمة الأرض ورمزيتها الدينية التي تعنيها لأبناء الكنيسة لن تفرق معها بيعها أو تأجيرها أو حتى المساومة عليها .
البطريركية بإدارتها الحالية تُحاول دائماً الظهور بدور الضحية وسط الأحداث الجارية وتحاول على الدوام التشكيك بوطنية وانتماء الصارخين بالحق تجاه التجاوزات الحاصلة والظلم الواقع على الكنيسة وأوقافها وأبنائها.
وهنا أتساءل مرة أخرى ألم يحن الوقت لوقف تلك الاستنزافات التي باتت تماماً كحكاية إبريق الزيت! ووقف مسلسل التفريط وكبح جماح تسلطهم عن الكنيسة وأوقافها والتصرف بها بموجب قانون أخوية القبر المقدس الذي يمنحهم حُرية التصرف بالأملاك والأوقاف بما أنها ملكٌ لهم، فأين دولتنا صاحبة الوصاية وحكومتنا صاحبة الولاية عن مسائلتهم؟، فأخشى أن نصل إلى مرحلة اللاعودة وإن كنا قد وصلنا فعلياً ؟!
ألم يحن الوقت لتشكيل لجنة ملكية مكونة من أبناء الرعية أصحاب الأرض والتاريخ لوضع حدٍ لهذا المسلسل الذي لم تنتهي حلقاته حتى اليوم ؟!
ألم يحن الوقت لمحاسبة كل من تثبت إدانته أو تورطه في مسلسل التفريط كونه مواطن أردني يحمل الجنسية الأردنية وجواز سفر أردني بتهمة الخيانة العظمى؛ فالخائن لكنيسته ومسؤولياته تماماً كالخائن لوطنه ؟!
كنت أتمنى وعلى الدوام لو أن الرئاسة الروحية تُشارك أبناء الرعية بما يحدث داخلها كونهم أصحاب الأرض الذين ما توانوا يوماً في الدفاع عنها وعن مقدساتها منذ غابر الأزمان، فبدلاً من نعتهم بأنهم يخدمون الكيان الصهيوني بكشفهم للحقائق، تستطيع أن تستقوي بهم لمواجهة الحملات الصهيونية التي تتعرض لها الكنيسة وأوقافها .
فكما نُنادي دوماً بأن الوطن خطٌ أحمر، فأيضاً الكنيسة وأوقافها خطٌ أحمر يجب عدم المساس بهما لأن الكنيسة هي صمام الأمان لشعبها وبالتالي صمام الأمان للوطن .
كنيستنا المقدسية الأرثوذكسية كالمسيح ، من آمن بها وإن مات فسيحيا .