ما فتئت النخب السياسية والاقتصادية والأوساط الحزبية تتساءل عن مغزى توقيت قرار الملك عبد الله الثاني بتغيير مدير المخابرات العامة الفريق أول محمد الذهبي ذي الحضور القوي في المشهدين السياسي والأمني. فخروج الذهبي وتعيين اللواء محمد رثعان الرقّاد المفاجئ جاء قبيل أول تعديل على حكومة نادر الذهبي, شقيق مدير المخابرات السابق, بعد سنة على تشكيلها, علما أنه كان متوقعا مطلع العام. كذلك جاء القرار وسط اشتعال الساحة في غزة وصدور ردود رسمية وشعبية غاضبة, وتأجج المشاعر نحو حماس على شكل مئات المسيرات والاعتصامات.
ورغم تباين التحليلات حيال الدوافع الكامنة وراء خروج الرجل الذي تربّع على رأس أكثر أجهزة الدولة حساسية وحرفية ونجح في محاربة تهديد القاعدة وفتح المناخات السياسية المغلقة مع مختلف ألوان الطيف السياسي, فإن هناك شبه إجماع بأن القرار جاء في إطار رغبة ملكية ملحة لتحقيق ثلاثة أهداف:
- تحقيق التوازن والعدالة "على قاعدة لا غالب ولا مغلوب" بعد إقالة رئيس الديوان الملكي باسم عوض الله في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي, إثر صراع غير مسبوق خرج إلى العلن بينه وبين الفريق الذهبي حول نهج إدارة الدولة وسياساتها. من جهة وقف عوض الله, رمزا لنهج ما يعرف بالليبرالية الاقتصادية التي دعمتها أقلية استمدت نفوذها من قربها من صانع القرار. تلك الفئة كانت تريد أن يحاكي الأردن تجربة سنغافورة أو دبي: بلد منفتح من الناحية الاقتصادية والاجتماعية إلى أبعد الحدود, مضبوط أمنيا وديمقراطيا في دولة المواطنة والمساواة, دون اعتبار للميزان السياسي الداخلي الحسّاس والعقد الاجتماعي المبرم منذ نشأة الأردن الحديث. صدقية هذه المدرسة الاقتصادية ماتت بسرعة مع انهيار الاقتصاد العالمي قبل شهرين على نحو كشف عورات نظام الرأسمالية المتوحشة وبات من الضروري البحث عن طريق ثالثة. في مواجهتهم, وقف تيار وطني غير متجانس عبّر عنه الفريق الذهبي على رأس المخابرات, آخر حصن دفاع عن هوية الدولة, ويعبر عن مدرسة قريبة من مفهوم "الإصلاحيين الوطنيين". هذه المدرسة ترغب في الإبقاء على اقتصاد السوق مع منح الدولة دورا اجتماعيا أوسع وإحداث إصلاحات سياسية تدريجية لا تثير مخاوف أي من "المكونات" الرئيسية في المجتمع ولا تمس الهوية الوطنية أو تركيبة النظام السياسي في بلد نصف سكانه من أصول فلسطينية.
- الرسالة الثانية تكمن في التأكيد على أن مؤسسة العرش, التي تترسخ منذ تولى الملك سلطاته الدستورية قبل عشر سنوات, تشكّل عماد الحكم ومصدر القرار السياسي الأوحد. لذا لا يتردد الملك في تغيير مدير المخابرات حتى وسط عاصفة إقليمية تلقي بتداعياتها على سائر المنطقة خاصة مع انكشاف ظهر النظام العربي وتغوّل إيران على دول الإقليم الملتهبة وقدوم إدارة ديمقراطية جديدة في أمريكا لم تعلن موقفا واضحا حيال استهداف غزة.
- ثالثا; إرسال رسالة واضحة للداخل والخارج بأن القصر يريد لدائرة المخابرات أن تعود إلى مهمتها الأساسية المتمثلة في التصدي للتهديدات الداخلية والخارجية, التي قد تمس الأمن الوطني والقومي والنظام الهاشمي, والابتعاد عن لعب دور مؤثر في الحياة السياسية العامة بعد أن تضخم دورها منذ 1996 لتعبئة الفراغ السياسي الناجم عن إضعاف مؤسسات الدولة كافة. التردّي تواصل ويستذكر الجميع كيف فقدت الحكومة دورها السياسي والاستراتيجي والتخطيطي قبل خمسة أعوام لصالح قيام "مؤسسات ظل" غير دستورية, ظل أنصارها يردّدون أنها مطلوبة ل¯"خفة حركتها" مقابل ماكنة بيروقراطية يعتبرون أنها مترهلة وتقف في وجه التحديث. في المقابل, يصر خصومها على اعتبارها مؤسسات غير دستورية تعمل بعيدا عن المسؤولية الرقابية, وتضعف الدولة وتتمدد على حساب الولاية العامة للحكومة.
لذا وقع الاختيار الملكي على اللواء الرقاد, ابن دائرة المخابرات وحامل عقيدتها منذ أن بدأ حياته المهنية قبل ثلاثة عقود. الرقاد عمل مساعدا لمدير المخابرات لشؤون المحافظات ولعب دورا أساسيا في عملية دهم واعتقال عناصر خلية إرهابية قاعدية في عمان أواخر .2005
مغزى تغيير الذهبي يكمن في التوقيت وليس الدوافع, إذ أنها تبقى نسبية وتخضع لمزاج الجهة التي تقيّم أداء الذهبي أو غيره طبقا لمدى خسارتها أو ربحها من نتائج القرارات. كما أن تحركات الذهبي, السياسية والأمنية من الانفتاح على حماس إلى رفع الضوابط عن تظاهر الجماهير نصرة لغزّة, لا تصدر من فراغ بل تنبع من توجيهات الملك- رأس السلطات.
ويؤكد مسؤولون أن دائرة المخابرات تمتلك عقولا استراتيجية قادرة على التخطيط ورسم استراتيجيات, ضمن منظومة متكاملة.
بعد اليوم, لا يتشارك الباشا الذهبي و د. عوض الله, السياسي الأكثر إشكالية واندفاعا وحراكا في عهد الملك عبد الله الثاني وأحد مهندسي ما تعرف بالإصلاحات الاقتصادية الجدلية, بأي شيء إلا في طريقة رحيلهما المبرمجة, مع ان الملك كان يفضّل عقد مصالحة بينهما هذا الصيف قبل أن يقرر استبدالهما, على الأرجح, بعد أن أحجم الذهبي عن ذلك.
"الباشا", 48 عاما, الذي أكمل عامه الثالت على رأس جهاز المخابرات قبل أسبوعين, خرج يوم عطلة العام الهجري. قبلها أقيل د. عوض الله عشية عيد الفطر الماضي. بالتزامن مع ذلك, أخرج مع الرجلين عددا من أقرب معاونيهما, وتلقيا رسائل شكر ملكية تثني على سجلهما وجهودهما المهنية وعطائهما المميز.
صحيح أن الملك عبد الله الثاني دخل عام ,2009 منتصرا على ظرفية التجاذبات بعد أن طغت لشهور على إيقاع الحراك السياسي. لكنه فقد أيضا معاونين أساسيين ربطته بهما علاقات قوية مدعومة بكيمياء شخصية نادرة, ما كان يسهل الاتكاء عليهما في عملية صنع القرار ورسم الاستراتيجيات قبل تمريرها عبر مجلس السياسات الأعلى الذي يرأسه الملك.
مع خروج الذهبي, ورغبة الملك في إعادة جهاز المخابرات تدريجيا إلى "حجمه الطبيعي" والتركيز على الهم الأمني, يتساءل ساسة ومسؤولون وحزبيون عن الجهة التي ستغطي الفراغ السياسي في آلية صنع القرار, أقله في المدى القصير.
السؤال الثاني يتعلق بمستقبل حكومة الرئيس الذهبي بعد أن ربط المراقبون مصير الرئيس ببقاء أخيه, وبجو التناغم بينهما وبين رئيس الديوان ناصر اللوزي. السؤال الثالث يدور حول التغييرات المتوقعة في تركيبة الإصطفافات البرلمانية, بعد صياغة معادلات وتحالفات ضمن رؤية ساهمت إلى حد كبير في توفير الدعم للرئيس, فضلا عن تهميش مفاتيح أساسية وزعامات تقليدية طالما سيطرت على المشهد النيابي لسنوات, وذلك لصالح وجوه جديدة بدأت بإحراجهم.
المعلومات المتوافرة تشير إلى أن الرئيس الذهبي قرّر تأجيل التعديل الوزاري لما بعد انتهاء الدورة البرلمانية منتصف شهر شباط (فبراير). هذا الوقت الإضافي سيساعده على تحديد بوصلة المواقف النيابية ودراسة تأثير التغيّر الأخير على المشهد المحلي, علما أن الملك طلب من اللواء الرقاد استمرار دعم حكومة الذهبي كما كان الوضع عليه لرضاه عن طريقة عمل الرئيس, بسبب كفاءته ومهنيته ومصداقيته في أوساط النخب وبين رجل الشارع.
فالرئيس استعاد ولاية الحكومة الدستورية بصورة تدريجية, اخذ قرارات اقتصادية مصيرية, وحاز على ثقة برلمانية "ذهبية". بانت حجم شعبيته غير المسبوقة في آخر استطلاع للرأي صادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية.
لذا من الإجحاف ظلم الرئيس الذهبي وتوقع رحيله فقط بسبب رحيل شقيقه الأصغر. فالرجلان نجحا في تحييد روابط الدم وعملا ضمن إرادة ملكية اختارتهما وتعاملت معهما على أساس المنصب وخدمة الرؤية التحديثية والعرش ومصالح الأردن.
لكن فقدان الانسجام التام بخروج الشقيق الأصغر لا بد وأن يؤثر على الرئيس وربما ترتفع مظلة دعم استراتيجي كانت توفر له الراحة في اجواء من التناغم النيابي والسياسي والحزبي, تعزز بفتح حوار أمني معلن مع حماس ما انعكس تحسنا في العلاقة بين السلطات والتيار الإسلامي, حليف الدولة لعقود قبل أن تتغير المعادلة.
محبو الرئيس, وهم كثر, يتمنون أن يتراجع عن قرار تأجيل التعديل, وأن يجري تغيير يمس وزارات سيادية وخدمية تعطي للحكومة نكهة سياسية وتوفر له راحة البال لقيادة المطبخ الاقتصادي. فربما تكون الحكومة المعدلة هي الطرف الأكثر قدرة على معاونة رأس الدولة من خلال طرح رؤى استراتيجية سياسية-اقتصادية-واجتماعية.
فالحكومة ستضطر للاتكال على نفسها في الحراك والانجاز والإقناع حين تخوض في الملفات الاقتصادية والسياسية الداخلية والخارجية وتصوغ مشروع إصلاح سياسي مبني على أجواء الانفتاح الأخير الذي تحقق بعودة الحوار مع مختلف ألوان الطيف السياسي بما فيها الإخوان المسلمون واليساريون - على وقع وعود ملكية بعدم حبس الصحافيين ضمن آلية لتوفير حرية سقفها السماء.0
rana.sabbagh@alarabalyawm.net