حين قال لي تونسي في «داعش»: أريد لبنان من أجل نقاب زوجتي
حازم الامين
06-08-2017 02:12 AM
كشفت المعارك في الموصل والرقة وقائع أخرى تستحق التوقف عندها، بينها ظاهرة «التوانسة» في «داعش»، ذاك أن المساهمة التونسية فيه فاقت كل المساهمات العربية والإسلامية. فأثناء تغطيتك الحرب في الموصل أو الرقة تقفز تونس في وجهك من خلف كل مشهد. هنا امرأة متزوجة بأمير تونسي في التنظيم، وهناك جثة مجهولة يحيلها السكان إلى مقاتل تونسي، وهذه طفلة إزيدية «أعتقها» أمير تونسي من السبي. ليس هذا فحسب، فـ «التوانسة» استعيض بهم عن المقاتلين المحليين حين كان يرغب التنظيم في أن تعقب المعركة عمليات انتقام، ذاك أنهم متخففون من الاعتبارات المحلية التي قد تعيق استغراق المقاتل بالعنف، أو المفاوض من فرض الشروط القاسية على العشائر المبايعة.
والحال أن المقارنات مذهلة لجهة كشفها تعاظم الدور التونسي في التنظيم الإرهابي. مصر التي يفوق عدد سكانها التسعين مليوناً أرسلت إلى التنظيم في العراق وسورية أقل من ألف مقاتل، بينما تونس التي قد لا يتجاوز عدد سكانها العشرة ملايين أرسلت ما بين 5 و7 آلاف. ووفق هذه المعادلة فنسبةً إلى عدد السكان أرسلت تونس أكثر مما أرسلت مصر بما يفوق العشرين ضعفاً. والمقارنة ذاتها تصح على جارة تونس، أي الجزائر التي يفوق عدد سكانها عدد سكان تونس بثلاثة أضعاف فيما أرسلت أقل من ثلث العدد التونسي، ناهيك بأن مساهمة بلاد الياسمين فاقت بأضعاف مساهمات دول الجوار العراقي والسوري.
مقابل هذه المؤشرات، تملك تونس مؤشرات يُفترض أن تجعلها أكثر حصانة حيال موجات التطرف والعنف من غيرها من الدول التي أوردناها. ففي تونس ملامح، وإن ضعيفة، لطبقة متوسطة، ومؤشرات التعليم أعلى من مؤشرات مصر والجزائر ودول المشرق العربي. ثم إن الخبرات «الجهادية» للجماعات المتطرفة أدنى من الخبرات الجزائرية والمصرية التي شهدت اختبارات وحروباً ضاعفت كفاءتها في الإرهاب! ومن المفارقات المذهلة على صعيد المؤشرات التونسية التي كان يُفترض أن توفر مناعة حيال الجماعات المتطرفة، أنه بينما كانت المعارك في الموصل تشتغل والمقاتلون التوانسة على خط القتال الأول، كان البرلمان التونسي يقر قانوناً يلغي فقرة تزويج المغتَصبة بمغتصِبها، ويعتبر الاغتصاب جريمة تقتضي السجن، وهذه سابقة عربية.
أجوبة كثيرة حاولت تفسير هذا التفاوت الهائل الذي أحدثته الظاهرة التونسية في «داعش». لكن المراقب يشعر بأنها جميعها على رغم وجاهة كثير منها، لا تُشبع فضول الباحث عن إجابة. وربما كان مفيداً أن يستفز المرء حمية الباحثين التونسيين بأن يقول إن القضية هذه لم تشغل فضولهم مقارنة بحجم الظاهرة وما تطرحه من تساؤلات وهواجس، على تونس بالدرجة الأولى.
ثمة أجوبة موضعية لها ما يوازيها في دول أخرى من دون أن يكون لها الوقع ذاته على مجتمعات هذه الدول. ومن الأجوبة السريعة والصحيحة ما حصل عقب الثورة لجهة الإفراج عن مئات من المتطرفين الذين كانوا في سجون «حكومة بن علي»، وبعض هؤلاء يتمتع بخبرات «جهادية» كسبها في أفغانستان والعراق، ومنها أيضاً تسليم حكومة النهضة الأولى عدداً كبيراً من المساجد لجماعات سلفية تولت تجنيد شبان من الضواحي الفقيرة لتونس العاصمة ولمدن أخرى، وإرسالهم إلى معسكرات في ليبيا ومنها إلى سورية والعراق. ومن التفسيرات أيضاً السفر السهل، خلال مرحلة حكم النهضة أيضاً، من تونس إلى تركيا ومن الأخيرة إلى سورية، مع ما يحمله هذا التفسير لجهة وجود حكومتين من «الإخوان المسلمين» في أنقرة وتونس، من احتمالات وتصورات لمستقبل سورية أولاً، وأيضاً لجهة الميل «الإخواني» للتخفف من العبء السلفي وما يمثله من تحدٍّ ديني لحكومة النهضة.
هذه الأجوبة تبقى عملية ووقائعية، وهي صحيحة في معظمها، لكنها لا تقترب من الحافز الداخلي لـ «الجهاد». من أتيح له مسجد وطريق وتمويل، يحتاج إلى بنية نفسية واجتماعية محفزة، لها الدور الأخير والأهم في قرار «الخروج إلى الجهاد». وأن يكون لدى التونسي الراديكالي شحنة محفّزة تفوق ما لدى الجزائري والمصري والأردني، فهذا يقول شيئاً، ويعني أشياء كثيرة تستحق التقصي. سبعة آلاف مقاتل في «داعش» رقم يشكل عينة مغرية للباحث يمكن عبرها رصد مؤشرات كثيرة سيكون لها دور في شفاء تونس أو في استغراقها في هذه الوظيفة. ويبدو أن للتحول الهائل الذي شهدته بلاد الياسمين بعد الثورة دوراً في هذا التحول. فالشرط الأمني والبوليسي الذي تخففت منه هذه الجماعات بعد الثورة جعل عملها وتمددها أمراً ممكناً ومتاحاً، وهذا سؤال جوهري أجابت عنه نخب علمانية تونسية ببعض النزق، ذاك أنها اقترحت سحب الجنسية من «العائدين من الجهاد»، ما يعني إلقاء عبئهم على الدول «المضيفة»، ويعني أيضاً هروباً من أسئلة الداخل وميلاً إلى عدم الاقتراب من وجوه إرهابيين أنجبتهم التجربة التونسية وطافت بهم في بلاد الله الخرِبة.
قد يكون مستفزاً القول إن هؤلاء المقاتلين أنجبتهم الثورة التونسية، ذاك أن الثورة منزهة عن فعلة كهذه، لا سيما أن تونس شهدت أنقى ثورة في ما كان يسمى «الربيع العربي»، وهذا ما جنبها مساءلات كثيرة. ثمة نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي كامل انهار بين ليلة وضحاها، واستبدل على نحو سريع بنظام آخر تقدمت فيه نخب جديدة على كل المستويات. مليون عضو في حزب التجمع مع عائلاتهم ومناطقهم فقدوا ما كان سبباً لتوازنهم واستقرارهم. ربما كان علينا أن نبحث هناك عن «داعش» التونسية.
سألت مقاتلاً تونسياً في «داعش» أسرته «قوات سورية الديموقراطية» في الرقة، وهو متزوج بامرأة لبنانية كان قتل زوجها الأول أثناء قتاله مع التنظيم، هل يرغب في العودة إلى تونس إذا أفرج عنه، فقال: «أريد أن أذهب إلى لبنان، بلد زوجتي، ففي لبنان حرية أكثر»! وحين سألته عما يريده من الحرية في لبنان قال: «في تونس لا تملك زوجتي الحق في ارتداء النقاب. لبنان يسمح بذلك. أريد الحرية من أجل نقاب زوجتي»... وهذه معضلة أخرى تنتظرنا بعد «النصر» على «داعش».
الحياة اللندنية