الشهداء قتلى وموتى في الإعلام
د. تيسير المشارقة
30-07-2017 10:33 AM
بعد كل حادثة قتل واعتداء إسرائيلي صهيوني على العرب. يحتدم نقاش بين الأيديولوجيين على مختلف انتماءاتهم وأفكارهم. يدّعي البعض بأن قتلاهم في النار وقتلانا في الجنة. ويقرّر آخرون بأن قتلانا "شهداء" في أعلى مراتب الجنة (أي في عليين).
قد يحدث هذا التصنيف الدعائي على المستوى الشعبي، ولكن على المستوى الإعلامي يختلف الأمر.
يدور نفس النقاش بين (الأيديولوجيين) و(الإعلاميين)، وتحدث اصطفافات وانحيازات غريبة عجيبة مع هذا الطرف أو ذاك. أنصار "القتيل الشهيد" يقفون إلى جانب (فضائية الجزيرة). بينما أنصار (فضائية العربية) يرون في القتلى العرب "موتى أو قتلى" وقع عليهم فعل القتل والواقعة الواحدة من فعل القتل "جريمة قتل".
((العربية)) تحتسب قتلانا عند الله شهداء، ولا تلصق الشهادة بهم هكذا وبسرعة "الوهلة الأولى"، لأن في ذلك إبْعادٌ لشأن الموت والقتل البشع عن الفعل الاحتلالي الإجرامي.
وعندما نطلق تعبير "شهيد " على ميّتنا أو قتيلنا العربي، نجد في ذلك إضفاء لسمة القداسة على واقعة القتل التي قام بها أفراد من قوّات الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني.. وعملية القتل هذه مدانة بكافة المقاييس الإنسانية.
تحاول قناة "العربية" الالتزام بالموضوعية الإعلامية والمصداقية والحيادية في التعامل مع مسألة "القتل" و"الموت" أياً كان القائم بالقتل وأيا كان المقتول. وتحتفظ هذه الفضائية بتسمية الفعل الإسرائيلي ضد المواطنين الفلسطينيين والعرب بأنه فعل "قتل" أو"جريمة قتل"، أدت إلى "موت" الناس والمواطنين، وليس فعلاً آخر.
في حادثة الحرم القدسي الشريف يوم الرابع عشر من تموز 14/07/2017 قام الاحتلال الإسرائيلي بإطلاق النار على ثلاثة شبان فلسطينيين من عائلة (الجبارين) في باحة المسجد الأقصى.. وألصق الاحتلال بهم تهمة قتل حراس المسجد [اقرأ: جنود احتلال يهود يتجوّلون بطريقة استفزازية داخل ساحات الحرم القدسي الإسلامي الشريف]. وعلى السريع قامت فضائية الجزيرة بالإعلان.. أن هناك (اشتباك مسلحاً) بين (مقاومين فلسطينيين) داخل الحرم القدسي الشريف مع جنود الاحتلال مما أدى إلى استشهاد المقاومين.
هذا التصريح بأنهم "مقاومين" و "اشتباك مسلّح" يعني أنهم مقاومين يحملون السلاح داخل المسجد (وليسوا مُصلّين). ومررت الجزيرة هذه المعلومة تحت مظلة "الشهادة"(التي انحزنا نحن للاستظلال بظلالها) عندما قالت إنهم " شهداءٌ" ومقاومون ..
لا مانع من الناحية الدعائية الإعلامية أن تصف الجزيرة قتلانا بالشهداء، ولكنها، أي فضائية الجزيرة تكون في ذات الوقت قد برّرت لإسرائيل إجراءات إقفال المسجد الأقصى بالبوابات الإلكترونية، حين ذكر العدو الإسرائيلي بأن هناك أشخاصَ يقومون بإدخال الأسلحة والعتاد إلى داخل المسجد ويبادرون بالاشتباك مع الحراس (أي قوّات الاحتلال).
فضائية "العربية" وصفت عملية القتل بأنها عملية اغتيال وقتل لفلسطينيين داخل المسجد الأقصى.. وهم مُصلّون يقومون بطقوس دينية داخل باحات الحرم. وعملية القتل والاعتداء كانت أثناء تواجد قوّات الاحتلال وجنوده داخل المسجد.
عملية القتل للمصلين الفلسطينيين هي عملية استشهاد، ولكنها "جريمة قتل" بالأساس.
الإسرائيليون الصهاينة اليهود يقومون بقتل الفلسطينيين في المساجد وفي بيوتهم، وفضائية الجزيرة تقول إنها "عمليات استشهادية"، والقتلى شهداء.. بينما في الواقع أن هناك عدواناً وقع على عرب وفلسطينيين وأن ذلك من عمليات القتل التي يقوم بها المحتلون الصهاينة بدم بارد دون رادع.. وهي جرائم قتل واضحة وضوح الشمس.
الشهداء العرب قتلى وموتى، نحتسبهم شهداء عند الله، وهم أحياء عند ربهم يرزقون. لكن لا ينبغي التقليل من واقعة القتل وإهدار دم العربي، والتقليل من شأن الموت الحزين للأرواح البريئة.
شخصياً، أنا منحاز لـ ((صياغة وسطى)) ما بين الصياغات الوطنية والأيديولوجية، فالقتلى العرب، بأيدي قوّات العدو، نحتسبهم شهداء عند ربهم، وموتهم مؤلم لنا. وهم مقتولون وشهداء في آن. والذي يموت بأيدي عدوّنا الذي يحتل أرضنا العربية سيكون ((قتيلاً شهيداً)) في نظرنا، وقديساً ورمزاً للكفاح والنضال، حتى لو كان مارق طريق..
إلا أن الانحياز لقناة الجزيرة كل ما دق الكوز بالجرّة على اعتبار أنها "حامية حمى الشهداء والعرب المسلمين" فهذا انحياز مُبَكّر وضار ويُمرّر الكثير من التصريحات والأخطاء الإعلامية والدعائية الخطرة بوعي أو بغير وعي.
وينبغي أن نُذَكّر أيضاً، بأن أي قتيل عربي مات بأيدي العدو والاحتلال الإسرائيلي الصهيوني هو "شهيد" بالمعنى "الوطني" وليس "الأيديولوجي الديني" فقط، ونحتسبه عند الله "شهيداً" وله سمة القداسة والتقدير دون نقاش.
أنا كعروبي، وهكذا تربيت منذ طفولتي، ارتبطْتُ بمقاومة العدو الصهيوني لاعتبارات تتعلق بقداسة المقاومة والموت .. فداءً للوطن والأرض العربية. ولا يستطيع أحد المزايدة عليّ في شان استشهاد العروبيين على أيدي المجرمين من الإسرائيليين.
كنت أحس بشعور غريب عندما أشارك في تشييع شهيد من الأردن أو لبنان وسوريا وفلسطين دفاعاً عن الإنسان والأرض العربية.. شاركت في تشييع القتلى العرب إلى مقابر الشهداء بحماس شديد. كنت أهرول كما يهرول الذين يحملون النعش.
وأذكر، في محافظة رام الله والبيرة، حيث استمرت إقامتي هناك مدة سبع سنوات، أنني شاهدت فيها كيف كانت تمر الجنازات بسرعة البرق، منطلقةً من مسجد جمال عبد الناصر إلى مقبرة الشهداء. يستعجلون في دفن الشهيد. هذا الأمر كان يشغل عقلي وقلبي.. معاً.
كنت أسير في مواكب الشهداء، وأنظر الى وجوه الذين يشاركون في حمل النعوش الطائرة.. ألحظُ تعابير الحزن المرتسمة على وجوه الناس وعمق المأساة.
أستمع بشغف وغضب الى أزيز الرصاص الذي ينطلق من بنادق الشباب تعظيماً وتكريماً للشهداء. أهتف مع الهاتفين.. وأحس (في كثير من الأحيان) بأنني أنا الشهيد، وأبقى مع الجنازة، حتى يوارون الميّت الثرى.
يُشارك في جنازات الشهداء آلاف الناس، في طقس بطولي فريد إنسانياً.. تحدث هذه المشاركة في البلدان العربية الجريحة، بشكل تلقائي دون تخطيط. فالموت يجمعنا.
العدو يقتلُ أبناءَنا، لهذا هم شهداء، وضحايا وموتى وقتلى.. وينبغي ألا يذهب دمهم هدراً أو هباء. ينبغي ألا يضيع حقهم في غمرة الجدل حول الموت والشهادة.