نظرة المجتمع الأردني للظلم
م. أشرف غسان مقطش
29-07-2017 05:09 PM
روى لي أحد زملائي في العمل قصة خلاف شديد نشأ بينه وبين أحد زملائه.
القصة وما فيها أن زميله نادى على أحد زملائه قائلا: "يا أهبل! يا أهبل! تعال!" وجاءه "الأهبل" مبتسما سعيدا بـ "هبله"! فاستهجن زميلي تصرف زميله وانتقد أسلوبه في المناداة انتقادا لاذعا، فدار نقاش حاد بينهما كاد أن يصل حد القطيعة.
قلت لزميلي: لماذا تدخلت بينهما على الرغم من أن القاضي راضي؟ زد على ذلك أن المثل يقول: لا تتدخل فيما لا يعنيك تجد ما لا يسرك؛ أجابني: كلا! يفترض بي التدخل فهناك حديث يقول: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". وهنا توقفت عن النقاش معه لأنه تصرف بناء على أساس عقيدته.
دارت الأرض حول نفسها وحول الشمس، وإذا بي أثناء مطالعتي لأحد الكتب أقرأ أنه قد قيل في الجاهلية "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"!
وهنا توقفت مرة أخرى مستذكرا النقاش بيني وبين زميلي. هو قال أن القول أعلاه حديث. ومؤلف الكتاب يقول بأنه قول جاهلي!
"جوووووووووجل"!
ورد في "الويكيبيديا" أن المرحوم بإذن الله الحافظ بن حجر ذكر في كتابه المشهور "فتح الباري" نقلا عن المفضل الضبي أن أول من قال "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما" هو جندب بن عنبر –عاشت الأسماء!- في الجاهلية.
وورد في موقع "إسلام ويب" أن القول إياه حديث صحيح. وقد أخرجه البخاري في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، والترمذي في سننه، وغيرهم، ولفظه في البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال: رجل يا رسول الله أنصره إذ كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟! قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره. والله أعلم.
وهنا توقفت مرة ثالثة! ليس لأنني احترت فيمن قال هذا القول أولا! لكن لما يمثل هذا القول من مثال رائع على الحقيقة التي ينظر إليها كل فريق من زاويته الخاصة به! وأعني بذلك الظلم بطرفيه: المظلوم والظالم.
ففي الجاهلية كان ينظر إلى المظلوم والظالم من زاوية العصبية القبلية. فالقبائل البدوية كانت تغزو بعضها بعضا، والأقوى ينهب الضعيف ويسلبه، والبدوي مطلوب منه بحكم العصبية القبلية أن ينصر أخيه إذا تعرض للغزو أي إذا كان مظلوما، وأن ينصره إذا غزا أي إذا كان ظالما!
أما في الإسلام فالزاوية التي ينظر منها المسلم إلى المظلوم والظالم فهي زاوية حجز الظلم. فالمصطفى -على ذمة البخاري-يريد من الإنسان أن ينصر المظلوم بالوقوف إلى جانبه في وجه الظالم، وأن ينصر الظالم بأن يمنعه من أن يظلم؛ فهو نصره بحجزه عن الظلم. وبهذا ارتقى المصطفى بقيمة هذا القول من خلال هذه الزاوية الجديدة من قيمة العصبية القبلية إلى قيمة الإنسانية!
وفي ظل هاتين الزاويتين المختلفتين أريد أن أبحث في نظرة المجتمع الأردني إلى هذا القول الذي كان وما زال له أثر لا يستهان به في حياة العرب إن كان في الجاهلية أم في الإسلام. ولعلني لا أغالي إذا قلت أن العديد من الحروب القبلية أيام الجاهلية ما كانت لتقوم لولا حضرة جناب جندب!
ربما لا تخذلني الوقائع إذا قلت أن نسبة ليست قليلة من المجتمع الأردني ما زالت تنظر لهذا القول من الزاوية العصبية القبلية. فكثيرا ما تسمع نشميا يقول لك وهو يضبط "عقاله" على "حطته": أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب طال عمرك!
بالمقابل، أتوقع أن نسبة كبيرة من مجتمعنا تنظر لهذا القول كما ينظر له زميلي من زاوية حجز الظلم. وذلك بحكم أنه حديث للمصطفى أخرجه البخاري. ومعروف للجميع أهمية ومكانة البخاري لدى المسلمين. يقال أن الناس في صعيد مصر يحلفون بالبخاري!
فلماذا هذا الاختلاف في زوايا النظر لهذا القول في مجتمعنا؟
لعل التفسير المناسب لذلك أن المجتمع الأردني هو عبارة عن مزيج من بيئات المدنية والريفية والبداوة. ولكل من هذه البيئات عاداتها وتقاليدها وأعرافها، بعضها يتشابه، والبعض الآخر يختلف.
وهذه العادات والتقاليد والأعراف تمثل أحد الإيحاءات التي تلعب دورا رئيسيا في تحديد الزاوية التي ينظر منها الأردني في طفولته إلى هذا القول، ومن شب على شيء شاب عليه!
فالأردني الذي يتربى في كنف المثل القائل "الدم عمره ما بصير مي" سينصر أخاه ظالما أو مظلوما من زاوية العصبية القبلية، ونتيجة ذلك اشتعال نيران الثأر، واتساع دائرة العنف، وتلغى إجازة الدركي ليقضيها حجزا للثأر.
أما الأردني الذي يلقن بالإيحاء والتكرار أن الظلم مرتعه وخيم فإنه سينصر أخاه ظالما أو مظلوما من زاوية حجز الظلم، وهنا تخمد نيران الثأر، وتضيق دائرة العنف، ويقضي الدركي إجازته بلا هم أو غم.
وعليه، لعلني لا أجانب الصواب إذا ما قلت بأن مناشدة الأسرة والمدرسة الأردنيتين بأن يغرسا في أطفالنا فلذات أكبادنا القيمة الإنسانية التي اضفاها المصطفى على هذا القول الجاهلي باتت أمرا لا مناص منه، وذلك كي نصل إلى مجتمع ينظر معظم بل غالبية أفراده إلى طرفي الظلم: المظلوم والظالم من زاوية حجز الظلم وكفه، عل وعسى لا تتكرر حوادث مشابهة لحادثة "الصريح" التي أشغلتنا آناء الليل وأطراف النهار مؤخرا!