جريمة السفارة بين سيادة القانون الأردني وسمو القانون الدولي
الدكتور موسى الرحامنة
29-07-2017 02:09 PM
كثيرا ما تتراجع أدوات سيادة القانون الوطني أمام التعهدات والالتزامات الدولية المنبثقة عن معاهدة دولية، إذا ما علمنا أن القانون الدولي يسمو على القانون الوطني وأن الدولة ملزمة بتعديل تشريعاتها بما لا يخالف نصوص المعاهدة الدولية.
الأردن وإسرائيل موقعان ومصدقان على اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 كسائر البلدان الأخرى التي تقيم علاقات دبلوماسية متبادلة مع غيرها من الدول.
الجريمة التي وقعت قبل أيام، بإقدام موظف دبلوماسي إسرائيلي على قتل شخصين أردنيين، هي وبلا أدنى ريب، جريمة نكراء بكل مقاييس الإنسانية والعدالة.
وطالما كان القاتل موظفا إداريا أو فنياً أو مستخدما في البعثة الدبلوماسية فإنه يتمتع جنبا إلى جنب مع أفراد أسرته من أهل بيته بالامتيازات والحصانات التي ورد النص عليها في اتفاقية فيينا لعام 1961 شريطة أن لا يكون متمتعا بجنسية الدولة الموفد إليها أو مقيما فيها إقامة دائمة.
وسيقتصر حديثي هنا عند موضوع الحصانات دون الامتيازات لأن فيه مربط الفرس وذلك للإجابة على تساؤلات كثيرة حين اتهم كثيرون الحكومة الأردنية بأنها عاجزة ومقصرة في إلقاء القبض على المجرم وتوديعه إلى القضاء. كما جرى حديث عن صفقة مع إسرائيل للتراجع عن إجراءاتها في الأقصى وهي ترهات لا أساس لها من الصحة وقد نفتها الحكومة جملة وتفصيلا لأن الموقف القانوني هو الذي يفرض نفسه في هذا السياق وهو واضح وضوح الشمس في رابعة النهار.
وعلى مقتضى نص المادة 31 من اتفاقية فيينا آنفة الذكر فإن الدبلوماسي الإسرائيلي يتمتع بحصانة قضائية جنائية مطلقة بمعنى أنه لا يجوز ملاحقته قضائيا فلا يجوز استدعاؤه إلى مراكز الشرطة أو الادعاء العام أو تفتيشه أو تفتيش منزله أو إلقاء القبض عليه إلا لدواع إنسانية تستلزمها حمايته من خطر أو أذى. والحالة الوحيدة التي يمكن فيها محاكمة هذا القاتل أمام القضاء الأردني هي أن تتنازل إسرائيل عن حصانته القضائية تنازلا صريحا بطلب من الحكومة الأردنية ليصار إلى محاكمته وفق القواعد القانونية الإجرائية المرعية في الأردن ولذلك لن يكون القضاء الأردني مختصا بنظر هذه الدعوى وسيردها لعدم الاختصاص إذا سيق هذا المجرم عنوة إلى القضاء الأردني ما لم تتنازل دولته صراحة وتوافق على محاكمته أمام القضاء الأردني.
وحتى لو تنازلت إسرائيل عن حصانة هذا الدبلوماسي وجرت محاكمته في الأردن فلا يجوز تنفيذ الحكم الصادر بحقة لأن تنفيذ الحكم يحتاج إلى تنازل مستقل عن التنازل عن حصانة الملاحقة والمحاكمة وهذا ما نصت عليه المادة 34 من اتفاقية فيينا.
والسؤال الذي أطرحه على بساط البحث هل طلب الأردن من إسرائيل أن تتنازل عن حصانة هذا الدبلوماسي؟ وهل يجوز الضغط على إسرائيل للقيام بمثل هذا التنازل؟
ربما يكون الجواب سهلا، بأن إسرائيل لن تقدم مثل هذا التنازل لأن هذه المسألة جوازية لها بموجب القانون الدولي المتجسد بالمادة 34 من اتفاقية فيينا، ثم أن الدول في الغالب لا تلجأ إلى مثل هذا التنازل، لأنها ترى فيه تنازلا عن سيادتها، ثم أن أسلوب الضغط الذي يمكن أن يمارس على إسرائيل هو تطبيق نص الفقرة الرابعة من المادة 31 من اتفاقية فيينا لمحاكمة القاتل أمام قضاها، لأن تمتع هذا المجرم بالحصانة القضائية التي تعفيه من الملاحقة والمحاكمة في الأردن، لا تعفيه من قضاء دولته، ومن هنا لا بد للأردن من أن يستثمر علاقاته الدبلوماسية بالمجتمع الدولي للضغط على إسرائيل للمثول للقانون والشروع بمحاكمة هذا المجرم.
في عام 2002 ضغط توني بلير رئيس وزراء بريطانيا على الحكومة الكولومبية لتتنازل عن الحصانة القضائية لأحد دبلوماسييها المعتمدين لدى المملكة المتحدة بسبب قتله شابا بريطانيا يبلغ من العمر 23 عاما ففعلت كولومبيا وحوكم القاتل أمام المحاكم البريطانية، ولكننا نعرف جيدا صلف إسرائيل وغرورها فلن تستجيب لطلب ولن تذعن لضغط لا سيما وهي تتكئ على نص الحصانة هذا.
إن الجرائم المرتكبة من قبل دبلوماسيين، ليست وليدة اليوم ففي مطلع الثمانينات ارتكب دبلوماسي أجنبي في أمريكا جريمة اغتصاب بشعة لثلاث فتيات، ولم ينصف القانون الأمريكي أيا منهن، وظل الجاني حرا طليقا رغم أنف الجميع والسبب تمتعه بالحصانة الدبلوماسية التي تعفيه من الملاحقة.
وفي الشهر الماضي تسبب دبلوماسي سعودي في ألمانيا بمقتل رجل ألماني حين كان الأول يصطف بسيارته بمسرب مخصص للدراجات الهوائية، وقد تصادف ذلك بمرور هذا الرجل بدراجته، وفجأة فتح الدبلوماسي باب سيارته فارتطم سائق الدراجة بالباب وفي فترة لاحقة لقي حتفه بسبب هذا الحادث،
لقد اكتفت السلطات الألمانية بفتح تحقيقات مرورية لغايات التأمين فقط، وجاء على لسان هذه السلطات الرسمية بأن تمتع هذا الشخص بالحصانة الدبلوماسية يمنعنا من مجرد استدعائه.
بعد كل هذا، لا ينبغي أن نخلط بين الحوادث أو نربط بينها من غير رابط فحادثة معارك أبو تايه أو ما تعرض إليه خالد مشعل في عمان وموقف الحسين رحمه الله منها وكذلك حادثة الجندي أحمد الدقامسة وغيرها كلها حوادث ترتبط بوقائع مختلفة فالقاتل الأخير محمي بموجب معاهدة اتفقت عليها كل دول العالم وتمسكت بتطبيق نصوصها واعتبرتها ملزمة فيما بينها.
إذن، ليس أمام المجتمع الدولي وقد عانى نوعا ما من الجرائم المرتكبة من قبل دبلوماسيين محصنين من الملاحقة القضائية إلا أن يطالب بتعديل اتفاقية فيينا للعلاقات للدبلوماسية من خلال استحداث محكمة دولية خاصة محايدة تضمن محاكمة عادلة لكل دبلوماسي يرتكب جرما بدرجة خطورة تسمح بمحاكمته أمامها وبما يضمن تنفيذ الحكم الصادر بحقه.
وأخيراً، فإن الإجراء الوحيد الذي تملكه الدولة المضيفة إزاء الدبلوماسي المعتمد لديها الذي يخالف قوانينها هو أن تعلن أنه شخص غير مرغوب فيه ومن ثم تقوم بحمايته وتحت الحراسة المشددة لضمان وصوله إلى المطار وتأمينه مع أول رحلة عائدة إلى بلده.