الدولة والاستقرار النفسي المجتمعي
فراس خليفات
29-07-2017 10:22 AM
الضغوط النفسية والاقتصادية والاجتماعية بمجتمع كالأردن قد وصل مؤشرات خطيرة جداً ولكن النظرة الكلية للأمر تغيب عن المشهد فتبقى تأثيرات ذلك محدودة بالشأن الشخصي. وعند النظر للأمر حتى في أكثر مدارس الليبرالية اليمينية بمحدودية دور الدولة في شؤون الأفراد، نجد أن الاطار الناظم للصحة العامة يقع في صلب مسؤولية الدولة قياساً وتعديلاً، وفي صلب الصحة العامة تقع الصحة النفسية للمجتمع ككل.
نجد أن الدول المتقدمة تتنافس في مؤشرات سعادة أممها وتقيسها بشكل سنوي وتتباهى بنتائجها حيث يندرج هذا المؤشر للأداء في صلب نجاح أو فشل حكومة ما حيث أن سعادة الفرد وبالتالي المجتمع يصل في دولة مثل ألمانيا الى حد ادراج السعي للسعادة كحق دستوري للمواطن الألماني.
هذا كله في العالم الذي لا يعاني الأزمات الاقتصادية والذي ترسم به السياسات لعقود معطيةً المواطنين حساً من الاستقرار وحيث تتوازى قرارات الدولة استراتيجياً حتى أصغر بلدية بحيث يكون عامل الاستقرار النفسي المجتمعي أولوية عند أخذ أي قرار. أما في الأردن فإن العديد من القرارات تأتي على النقيض من هذا وتصب في تأجيج عوامل القلق المجتمعي علماً بأننا من أشد الدول حاجةً لهذا الاستقرار المجتمعي وذلك للعوامل التالية:
• عدم الاستقرار المجتمعي بعد بالانتقال من مجتمع أنثوي-جمعي (بمقياس هوفستيد) بكافة تكيفاته من مدني-فلاحي-بدوي لذكورية-فردية يأخذ فيها الفرد دخله بشكل فردي بينما يظل عرضة لسطوة الجمع في خياراته الشخصية.
وهنا لم يحصل حتى الآن نضوج بدور الاعلام بأخذ هذا الانفصام بين الفردية والجمعية وتسويق الشكل المراد الوصول اليه عبر الدراما الاجتماعية والبرامج الاعلامية وعبر قادة الرأي.
• موجات اللجوء كل عقد أو عقدين بشقيها المضاف والمضيف وآثار ذلك على معدل التغيير العمراني والاقتصادي والمجتمعي من جهة وفجوة وجود أي جهد جدي لإيجاد عوامل مجابهة أثر التغيير السريع السلبي عند الطرفين من جهة أخرى.
فالإنسان بطبيعته مقاوم للتغيير وكل ما زاد معدل التغيير كلما ألقى بظلاله على نفسية المجتمع. في البرازيل مثلاً، خلال التحضير لاستضافة كأس العالم تمت ازالة تجمعات سكانية مخالفة وأخرى قانونية ليحل مكانها البنية التحتية لاستقبال ملايين الزوار للحدث، فلوحظ تراجع مؤشرات السعادة مما أدى بالدولة بتكثيف الفرص للعمل التطوعي وزيادة وسائل الترفيه المجاني ونشر العبارات الداعية على الأمل والصبر بالشوارع وعبر وسائل الاعلام للتصدي لآثار تهجير بضعة آلاف.
عندما نتحدث عن تجارب نسبة ليست هينة من الأمة (التوصيف العلمي مجتمعياً بعيداً عن الانشاء السياسي) الأردنية فإن فراغ أي جهد في ذات الصلة يترك المجتمع بجميع مكوناته عرضة للسلب الثقافي لأي جهة تعطيه بعضاً من التخفيف والمعنى والأمل كما حدث سياسياً ويستمر حدوثه حتى اليوم مع داعش وغيرها وقبلها مع شتى الخطابات السياسية المنافسة من دول الجوار.
• الضغوط الاقتصادية واللوجستية الهائلة والفجوة الكبيرة لما هو مرسوم كطموحات شخصية و واقع الأمر في دولة أغلب سكانها في عمر الطموح بالتوازي مع فشل اعلامي في رسم طموح أكثر واقعية وفشل حكومي في ايجاد البيئة القادرة على صنع هذا الطموح. وبينما يختلف الأغلب على نية وقدرة الحكومة لتوفير هذه البيئة المحققة للطموح فان الأغلب ممكن أن يتفق على أن هنالك فراغ كبير بتوفير الاعلام لقصص نجاح يستطيع الفرد العادي ايجادها قريبة له.
• غياب أي تعريف علمي متوازي للهوية المجتمعية الثقافية ان كان كمحتوى في المدارس أو الاعلام أو كرموز ملموسة من تسميات الشوارع الى التماثيل والنصب في البيئة الفيزيائية الملموسة.
خلق أو تخليد البطولات وأصحابها لا يصب فقط في ايجاد الهوية لكنه أيضاً يصب في تعزيز قابلية الطموح عبر نماذج من الواقع القريب كما أسلف بالنقطة السابقة. غياب المحتوى والأدوات الصانعة للهوية الوطنية يدفع بأفراد المجتمع لاختيار هويات أوسع كالإسلامية أو العربية أو أضيق كالمناطقية أو القبلية.
ينعكس هذا في شعور باللاوعي بعدم الطمأنينة لكون المجتمع المحتضن بالواقع يوفر الحماية للفرد وبذلك يزيد من قلقه وعدم طمأنينته، وهذا مرده الحاجة التطورية للإنسان لوجود انتماء لهوية مكانية مجتمعية له فيها روابط أخوية يعتمد فيها الفرد على المجموعة للوجود والاستمرار.
هذه العوامل وغيرها يصعب تعديلها في ليلة وضحاها وتستدعي الوعي عند صانعي القرار بالنظر للمجتمع واستقراره كأولوية وبشكل طويل الأمد عابر للحكومات. أما الأمور التي يمكن تعديلها على المدى المتوسط والقريب فإنها تشمل الأمور التالية:
• الاستقرار البصري العمراني والبيئي:
كل ما زاد معدل التغيير والضغوط الاقتصادية والاجتماعية فإن الفرد يلجئ للماضي كموفر للاستقرار والطمأنينة النفسية.
في الأردن نجد أن معدل التغيير العمراني والبيئي مهول في ظل موجات اللجوء الكبيرة من جهة والنمو العمراني الطبيعي ومتطلباته العالية لأمة يافعة من جهة أخرى، بينما يتصاحب هذا التغيير مع ضغوطات اقتصادية واجتماعية مهولة. أما هذه الملاجئ من العناصر العمرانية والبيئية الموفرة للاستقرار يتم ازالتها واستبدالها بشكل يومي دون أي مراعاة لأثر ذلك على الاستقرار النفسي المجتمعي، فنجد مباني المدن القديمة تهدم لبناء عمارات سكنية بينما يتم التعدي على الأحراش والبساتين والمقاثي دون أي وعي بانها عناصر ثابتة توفر استقرار في مناخ شديد التغير.
يكفي كل مدينة تشكيل لجنة مختصة تستخرج قائمة بالمباني والمناظر الطبيعية ذات القيمة الاجتماعية والثقافية والتاريخية الداعية على الاستقرار واستصدار قرار بمنع هدمها أو تحويلها لتثبيت البيئة البصرية للجيل الحالي والأجيال القادمة. وعدى عن كون ذلك عامل استقرار فهو حتماً عامل تعزيز للهوية الوطنية المكانية التي تستمد بعض مكوناتها من البيئة البصرية للمكان. على العكس المتوقع فان أصحاب هذه العقارات والأراضي ستزيد قيمة ممتلكاتهم بعد اضافة القرار بعدم هدمها للقيمة غير الملموسة لها.
• الصحة الغذائية والبيولوجية العامة:
يحدثنا المسؤولين بالصحة العامة عن تفشي نقص فيتامينات باء ودال ومعادن الماغنيسيوم والليثيوم والزينك في الأردن ويُترك من الحديث أثر ذلك على الصحة العقلية والنفسية للمواطنين.
فإن جميع هذه العناصر تعتبر في صلب الغذاء الضروري للعقل البشري. لا تتحمل وزارة الصحة المسؤولية عن النقص فإن طبيعة الحياة الحديثة بعيداً عن الشمس تنتج نقص فيتامين دال، أما فيتامينات باء فإن طبيعة الثروة الحيوانية وعدم رعيها بشكل طبيعي ينتج نقصاً بالماغنيسيوم والمعادن والأحماض الأمينية وأهمها التريتوفان أما حقنها بالمضادات الحيوية فانه يؤثر على البكتيريا الصحية في الأمعاء وما لذلك من أثر على امتصاص الفيتامينات والغذاء بشكل عام. أما الماغنيسيوم والليثيوم والزينك فإنها متوفرة بالعالم الطبيعي كأملاح وان لم تتم الزراعة بجانب مناطق انتشارها كما هو الحال بالأردن حيث تسقى المحاصيل بالمياه المكررة ومياه المطر فإنها لا تدخل في الدورة الغذائية عبر النبات وصولاً للإنسان.
الدراسات أثبتت عقداً بعد آخر أن المناطق الساحلية تحمل أقل نسبة انتحار وذلك لدخول السمك وما يحمله من معادن للغذاء هناك. في عدة مدن في أميركا تثبت الدراسات أن زيادة معدلات الليثيوم في المياه تتماشى مع تدني نسبة الجريمة والانتحار والاكتئاب.
هذه العناصر كلها رخيصة الثمن اذا ما تم شراؤها بالحجم الكبير ويمكن اضافتها للطحين والمياه كما يتم حالياً اضافة بعض الفيتامينات للطحين والفلورايد للمياه. على صعيد ليس ببعيد فان استبدال إضاءة الشوارع بالإضاءة البيضاء لا شك يوفر بعضاً من التكلفة التشغيلية لكن هذه الإضاءة البيضاء تعطي الضوء الأزرق بشكل أكبر من البرتقالية مما يرسل رسالة الى الدماغ البشري أن الوقت ما زال صباحاً مما يؤخر افراز الميلاتونين في الجسم وبالتالي يؤخر عمليات الجسم للوصول لحالة التحضير للنوم، وهنا يتسبب قرار واحد في التأثير بمعدلات الأرق والقلق الناتج عنه عند كل المجتمع مع أن حجب اللون الأزرق من إضاءة الشوارع لا يعدو كونه تظليل بلاستيكي رخيص الثمن يشترى لمرة واحدة.
• الترفيه والاعلام:
توفير الترفيه المجاني في التجمعات السكانية الكبيرة ليس أمراً ترفياً بل ضرورة حتمية للتعامل مع الحياة الحديثة خاصة مع العوامل التي تواجه الأردن وأهمها أعلاه. نجد على الرغم من ذلك أن ميزانيتي وزارة الثقافة والسياحة لا تتعدى ميزانية فندق من فنادق البحر الميت فكيف لهما أن ينفقا على المصاريف الرأسمالية والتشغيلية الضرورية لتوفير الفعاليات الثقافية والسياحية الجذابة للمجتمع والمرفهة عنه. أما القطاع الخاص فيلحق بعوامل الربح وبذلك يتكرس في عمان والتي على تفوقها النسبي تعاني هي الأخرى من عدم وجود صناعة ترفيه. اعلامياً، نجد بعض النقاط المضيئة والمبشرة كل فترة وأخرى لكن يعاني القطاع هو الآخر من عدم مأسسة وعدم وجود صناعة اعلامية متكاملة. وفراغ الاعلام الترفيهي يرمي بمسؤولية أكبر على الترفيه الثقافي والسياحي الأكثر كلفة من جهة ويترك المجتمع عرضة للسلب من الخارج والانتقال للأعلى أو الأدنى بالهويات من جهة أخرى.
نهايةً، الصحة النفسية المجتمعية ليست ترفاً بل تصب بمعدلات الانتاج والجريمة والاستقرار العام وفقدان الأمل وايجاده عن الدواعش، ومع أخذ كل العوامل الأخرى بعين الاعتبار فإن توفير الحلول يأتي متأخراً وحبذا لو يتم قياس مؤشرات السعادة والصحة النفسية بالأردن لربما استفاقت دولتنا لمسؤوليتها بعده.