المواطن العربي وغلاء الأسعار
14-04-2007 03:00 AM
مع نهاية التسعينات وبالتحديد من سياتل 1999 بدأت موجة جديدة من الصراع الاجتماعي بالظهور ، حيث ترسخت من سياتل 1999 مروراً بجنوا ، وبورتو اليغري 2005 ، وبين تلك المحطات خرجت الملايين إلي الشوارع بطريقة غير معهودة احتجاجاً على الفقر ، والحرب ، وغلاء الأسعار ، والعسكرة ، وتدمير البيئة ، والتهميش .. إلخ .
حيث بدأ الصراع يعبر عن نفسه في التيارات التي التقت حول مناهضة العولمة ، وبدأ الوعي الناشئ يبحث بسرعة عن أدواته الخاصة ، وبدأت ملامح تشكيل المنتديات الاجتماعية العالمية والإقليمية ضد العولمة ، ولم يأخذ الصراع الطابع العالمي في أي وقت سابق كما بدأ يتخذ هذا الطابع اليوم ، وتعتبر هذه الميزة الأهم والأبرز منذ انهيار التجربة السوفيتية ، حيث بدأ الصراع يأخذ الشكل المطلبي الكلي ، ولم يعد مجزأ ومعزولاً بطبقات معينة .
بدأ هذا الصراع الوليد يشكل بؤراً مشتعلة لمقاومة العولمة بأشكالها وأطيافها وسياساتها ، وما أفرزته احتجاجات الشعوب واستنهاض قدراتها على التعبير عن رفضها لمظاهر بدأت تأتي ثمارها دليلاً قاطعاً بأن أدوات الصراع اختلفت ، وأن الشعوب بدأت ترتكز لمقوماتها في التعبير عن معضلاتها واحتياجاتها بآن واحد . ومن أهم ما يمكن أن يتحدث عن ذلك التمرد الشعبي والجماهيري ، وحالات الرفض التي عبرت عنها الشعوب في العالم وأهمها حالة الحراك في الوطن العربي التي تجسدت وتمثلت في المظاهرات الشعبية العفوية التي شهدتها اليمن ضد غلاء الأسعار ، وحالات البطالة والفقر في المغرب ، والعديد من البلدان العربية ، وهي مؤشرات تدل على أن هناك توجهاً شعبياً عالمياً لمواجهة كل تجليات العولمة في العصر الحديث ، ومواجهتها بإرادة شعبية .
صحيح أن هذا الحراك لا زال في بداياته ، ويفتقد للتنظيم والصبغة الرسمية المبرمجة ، ولكنها بدأت تشكل نواة للتحرك ، وولادة طبيعية لما تعانيه الشعوب من معاناة طالت لقمة العيش ، وأضحت تعرضهم للموت .
هذا كله يقودنا للعديد من التساؤلات ، والتي تتجلي في حصر حقيقة أصبحت جلية ألا وهي غلاء الأسعار " الوحش الجديد " الذي كشر عن أنيابه لافتراس الفقراء ، وكذلك الطبقات الوسطى أيضاً ، ففي الماضي كان الفقراء هم الطبقة الأكثر تذمراً وتمرداً من غلاء الأسعار ، بما إنهم لم يمتلكوا ما يمكن من خلاله مسايرة تعقيدات وصعوبات الحياة ، أما اليوم وفي ظل هذا الغلاء الفاحش ، والارتفاع اليومي للأسعار ، وتحول جميع السلع بما فيها السلع الترفيهية لسلع مدفوعة الثمن ، وخصخصة كافة الخدمات ، والتنافس بين الشركات العملاقة لاحتكار السلع بكافة أنواعها ، وتحولها لصراع اجتماعي – اقتصادي ضحيتها المواطن العادي .
أمام هذه الحالة أصبح المواطنون بفئاتهم أمام مصير مشترك وهو مواجهة طوفان العولمة الذي بدأ يغزو كل حياتنا ، ويقاسمنا في كل شيء مقتحماً ومحتلاً بآن واحد ، فلم تعد العسكرة هي السلاح الأوحد لإخضاع الشعوب وحلقة الصراع ، وإنما أصبح الاقتصاد والثقافة والأدب وكل مجالات الحياة في خضم هذا الصراع العالمي الجديد الذي جاء على أنقاض الصراع الشيوعي – الرأسمالي .
يعيش الوطن العربي تحت تأثيرات هذا الصراع وبدأت ملامحه تتبلور من خلال العديد من المظاهر ، أهمها احتكار اقتصادي شمولي لكل المقدرات الاقتصادية ، فالاحتكار لم يعد يقتصر على جوانب معينة ، بل طالت يداه كل احتياجات البشر من سلع غذائية ، وترفيهية ، وثقافية ، وتحكّم بحياة الإنسان بشكل عام .
وتحولت الثروات الطبيعية التي يتمتع بها المواطن العربي لمطرقة تهوي على رأسه ، وسيفاً مسلطاً على رقاب أهله وشعوبه ، فوطننا العربي الذي يتمتع بمزايا وثروات طائلة وهبها الله له من موقع جغرافي متميز مترابط رغم إنه يقع في قارتين ،ويربط هذا الموقع بين قارات العالم وبمنافذه البحرية والبرية والجوية ، وتنوع مناخه الذي يوفر له خصوصية إنتاجية متنوعة على مدار العام ، وتفجر الثروات البحرية والمائية بخيراتها ، وأخيراً ثورة اكتشاف البترول التي استبشر بها المواطن العربي خيراً ، وأمنى النفس بأن هذه الثروة ، والثورة ستنقله نقله نوعية ، وستنحو به نحو قفزة اقتصادية ثقافية ، وسياسية تضاهي بالتوازي القفزة التي سيحدثها اقتصادياً.
فالأمم تسعى لأن يكون تطورها متوازٍ سياسياً ، واقتصادياً ، وثقافياً حتى تتمكن من بناء حضارة ومستقبل تقتحم من خلاله أبواب التاريخ ، وتحتل مكانة بين الشعوب المتقدمة والمتطورة ، وتساير عصر التكنولوجيا والتقدم ، وترسم معالم نهضتها وتخط طريقها بين الأمم المتطورة علمياً واقتصادياً .
ويبدو أن ثروات الوطن العربي قد خضعت واستسلمت لرحى العولمة ، حيث كان الانعكاس الفعلي لهذه الثروات ، احتكار كامل وتحويل المجتمعات العربية لمجتمعات استهلاكية ، وهي الثقافة التي تستند إليها العولمة كسلاح موازٍ للعسكرة ، وهو ما نجحت به عملياً ونظرياً واستطاعت أن تستغل ثروات الوطن العربي ، وتستخدمها لغزو عقل وثقافة المواطن العربي بفكرها وأسلحتها ، وتجسيد ثقافة الاستهلاك .
وعودة على بدء ، يشهد الوطن العربي بكافة أقطاره ارتفاعاً في المستوى الاقتصادي العام من حيث المدخولات وخاصة البلدان المنتجة للنفط ، نتاج الارتفاع في أسعار النفط العامة نتاج التنافس العالمي ومحاولات الشركات العملاقة احتواء الدول المصدرة للنفط ، ورغم هذا الارتفاع النسبي في أسعار النفط ، وارتفاع المستوى الاقتصادي العام ، فإن الباحث في الموازنات العربية العامة يجد أن معظمها تعاني من عجز في الموازنات ، هذا العجز هو نتاج طبيعي للسياسات العربية التي أصبحت تعيش تحت هاجس الخطر والتهديد ، وتسابق الزمن للتسلح العسكري ، والاستسلام للشركات الأوروبية التي تقدم كل ما هو جديد من أسلحة وتقنيات عسكرية ، وما مهد لذلك الحرب الإعلامية السياسية التي روج لها بالمنطقة العربية وجعلت العراق سابقا العصا التي تلوح بها للأنظمة العربية ، واليوم إيران وتطورها العسكري وأهدافها السياسية بالمنطقة ، مما دفع الأنظمة العربية لتخصيص جل الموازنات للجانب العسكري والأمني والذي كان سبباً رئيسياً في انهيار المنظومة السوفيتية التي أولت القطاع العسكري الأولوية ، وأهملت باقي القطاعات الأخرى .
وهذا ما يحدث الآن في المنطقة العربية حيث يواجه المواطن هذه الإستراتيجية من خلال انخفاض معدل الدخل اليومي ، وارتفاع هائل في الأسعار وغلاء المعيشة ، وخصخصة كل السلع بكافة أنواعها .
فلم يعد المواطن يجد سوي الهواء كسلعة مجانية ، ويخشي أن تستغل حالة التلوث البيئي نتاج ما تمارسه الشركات ، في إنتاج سلعة هواء نقية كمنتوج ضروري ونقي ونظيف تتهافت عليه الشعوب ، وبترخيص من وزارات الصحة .
إذن فارتفاع سعر البترول وما يصاحبه من ارتفاع في المستوي الاقتصادي العام للبلدان المنتجة للنفط هو انعكاس لرغبات العولمة التي تستثمر طاقاتها في تمرير سياساتها وثقافتها ، ولإدراكها أن هذا الارتفاع في أسعار النفط هو عائد لها أولاً وأخيراُ ، وما صراعها مع فنزويلا سوى صراع احتواء اقتصادي واجهة الرئيس الفنزويلي ( شافيز ) وهو ما تناقض مع سياسات وأفكار وأهداف العولمة ، فاستخدمت كل الأدوات لمواجهة التجربة الفنزويلية حتى لا يتم تعميمها ، والاقتداء بها من باقي الشعوب صاحبة الثروات .
الحديث عن غلاء الأسعار لا يمكن حصره في معزل عن الصراع الحالي ما بين العولمة والمجتمعات عامة ، لأنه صراع وجود وبقاء ، صراع المنتصر مع الضعفاء ، صراع التجسيد اللغوي لعبارة " أنا منتصر إذن أنا افعل ما أريد ".
فما يشهده الوطن العربي هو صراع عام ولد مع ولادة الغزو الكلي للعولمة ، ومحاولات احتوائها لمصادر القوة سياسياً، واقتصادياً ، وثقافياً ، وبأدوات ذكية ، فلم تعد تستخدم أدوات مستوردة لإدراكها أن الأدوات المستوردة تتعارض مع القيم والعادات وعليه يمكن مواجهتها وإفشالها ، كما تم إفشال بروتوكولات حكماء الصهيونية بالسيطرة على المال ، والإعلام ، والدين ... إلخ . فلجأت العولمة لاستعمال أدوات من نفس الجسد العربي تتمثل بالشركات العربية العملاقة ، وبسياسات التطبيع والانفتاح والخصخصة ... الخ.
فالمواجهة القادمة ستكون شرسة ، وأكثر دموية لأنها مواجهة عامة لا تقتصر على فئة معينة ، بل هي مواجهة مشتركة بين جميع الفئات والطبقات ، بينها العديد من القواسم ، مواجهة ستذوب فيها التمايزات الطبقية ، كما كانت المرحلة السابقة التي اتسمت بالتمايز الطبقي في المواجهة والصراع .