منذ معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في عهد السادات وما رافقها من انفتاح على الثقافة الأمريكية والعدو الصهيوني تراجعت أصوات القومية والعروبية في الشارع العربي والمصري على وجه الخصوص واستبدلتها دعوات للفرعونية والفينيقية والأفريقية وباتت الحكومات التي كان بعضها متضايقا سرا أو جهرا من الروح القومية التي سادت المشهد في حقبة جمال عبد الناصر ترفع شعارات العودة إلى ما قبل العروبة والإسلام وتذكر بخصوصية كل دولة في محاولة لنزع الهم القومي من صدور الشعوب التي كانت المحرك الذي دفع القيادات لخوض حروب لم يردها البعض مع إسرائيل.
وكرد فعل على هيمنة تلك الدعوات في وسائل الإعلام الرسمية وكتابات المثقفين انجرفت حتى الدول عروبية النشأة والهوية إلى ذلك الفخ وتحول الجميع بعد أن باتوا في حالة دفاع عن النفس إلى رفع شعارات مفرطة في الشعوبية والإقليمية أو ما اصطلح مؤخرا على تسميته الوطنية باعتبار أن الوطن لم يعد الوطن العربي الكبير وإنما الرقعة الجغرافية الصغيرة التي تحتضن دولا هي في جوهرها منزوعة السيادة حتى وإن كانت مستقلة.
نعترف أننا ككتاب ومثقفين انجرفنا بدورنا في ذلك التيار محاولين إيجاد خصوصية لأوطاننا الصغرى وبناء هوية هي أصغر من هويتنا العربية والإسلامية ولكن ذلك لم يكن لأنانية في الطبع أو أطماح للعزلة بقدر ما كان ردة فعل على رفع الدول الكبرى والغنية والمؤثرة في المنطقة من المحيط إلى الخليج لمثل تلك الشعارات المفرطة في الخصوصية وردة فعل على ممارسات بعض الدول العربية المهينة داخل أراضيها بحق المواطنين العرب من جنسيات مختلفة ومنعهم من العمل ومن الدخول إلا بفيزا يشق الحصول عليها وإرهابهم بالكفيل والتسفير ومحاصرتهم بالموافقات الأمنية وغير ذلك من إجراءات دفعت ببقية العرب المضطهدين إلى البحث عن تعويض يردون به كرامتهم في دولهم فباتت دعوات الإقليمية لها سندان: سند في القمة بين القادة ومثقفي السلطة وسند في القاعدة لدى جمهور بات يفتش عن هوية يدافع بها عن خصوصيته .
ما حل بلبنان وغزة خلال العامين الماضيين على أيدي الجيش الإسرائيلي المجرم بدأ شيئا فشيئا بإذابة أسوار الإقليمية البائسة التي عزلتنا عن بعضنا البعض واستطاع الإسرائيليون جراء استفزاز آلتهم العسكرية المتوحشة هدم أسوار الفرقة وتوحيد الصف خلف معاناة اللبنانيين والفلسطينيين، وجاءت أحداث غزة الأخيرة التي قدمت مثالا حيا على همجية ذلك الكيان العنصري لتذكرنا بأننا عرب ومسلمون وأننا جميعا سنلقى المصير ذاته إن لم نتحرك اليوم لنجدة أهل فلسطين.
عندما خرجت دعوات القومية العروبية في الأربعينيات والخمسينيات وسادت في الستينيات والسبعينيات كان السبب هو إسرائيل فقد وحدنا العدوان الإسرائيلي الهمجي ومحاولات استلاب الأرض والهوية ضمن إهاب واحد كان آنذاك العروبة وخرج زعماء ملهمون ما زالوا حتى اللحظة يوقدون أحلام الشباب كجمال عبد الناصر وتحول الوطن العربي الكبير مترامي الأطراف إلى وطن واحد يحلم حلما واحدا ويرفع شعارات واحدة يتألم فيه المصري لألم الفلسطيني والسوري والعراقي ويدمع اللبناني لمعاناة الجزائري واليمني، كانت تلك أياما رائعة أخرجت أجمل وأفضل ما في هذه الأمة من شعراء ومبدعين ومثقفين وسياسيين، ولكن بعد هزيمة العرب أمام إسرائيل عام 67 وبعد تحول مصر من خطها القومي إثر توقيع معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل وما سبقها من تسريبات ومعلومات عن أن القرار السياسي كان ما أوقف النصر العسكري في حرب 73 تراجع المد القومي وتراجعت معه أحلام المثقفين شيبا وشبانا وشعرت الأمة بأنها انكسرت فباتت تفتش عن مخارج وهمية لإعادة شعورها بالعزة فكان التبرير النفسي للعودة إلى حقب ما قبل العروبة لاستلهام الكرامة والفخر منها وكان ما كان من فرقة وضعف بدآ ينخران في الجسد العربي الكبير حتى جاء غزو العراق للكويت عام 1989وحرب الخليج 1990 ليكونا الضربة القاصمة التي وجهت لوحدة الأمة سياسيا وشعبيا واقتصاديا فكانت الفرقة وكرست دعوات القطيعة بعدما فرزت الأمة إلى معسكرين.
ولكن غزو العراق عام 2003 على أيدي قوات التحالف بقيادة أمريكا وبريطانيا كانت بداية صحوة جديدة في تاريخ الأمة المنقسمة ، كانت الشرارة التي أعادت نيران الغضب لتشتعل في الصدور ضد الهيمنة الأمريكية ولكنها مع ذلك لم تكن كافية لتوحيد الأمة فهذه الأمة لا توحدها إلا إسرائيل!!
جاء العدوان الإسرائيلي الوحشي على لبنان صيف 2006 ليعيد حشد الشارع العربي خلف قوى لم تعد عروبية هذه المرة بل إسلامية ولم تعد سنية بل شيعية، وهو ما أبقى دعوات الوحدة ضعيفة نسبيا نظرا لأن غالبية العرب هم من السنة المسلمين، ولكنها مع ذلك كانت نقطة مفصلية في يقظة الشارع الفعلية ، هذا الشارع الذي كان ينتظر أحداث غزة ديسمبر 2008 ليقول كلمته ضد الإقليمية والشعوبية والعزلوية.
عادت إسرائيل لتوحد الأمة المنقسمة من جديد كما وحدتها في عصر القومية العروبية ولكن تحت فكر جديد هذه المرة وباستراتيجية جديدة فقد استبدل الإسلام العروبة وباتت القوى المؤثرة في الشارع هي القوى الإسلامية التي انفردت بمعظم المشهد المقاوم لتؤكد أنها وحدها القادرة على تحريك الجماهير وتنظيمها في آن معا ضمن ضوابط مدهشة للتعبير عن الموقف، وأنها وحدها القادرة اليوم على ترجمة تلك التحركات الشعبية إلى أفعال.
عندما شاهدت المصريين يهتفون بالأمس على شاشات التلفزة : "يا غزة جايين.. شهداء بالملايين " انهالت دموعي تأثرا وشعرت بأن وحدتنا لم تمت وشعرت باننا لا غنى لنا عن بعضنا وأن عمقنا عروبي إسلامي ويا لروعة ذلك العمق. إن كنا نطالب بوحدة 22 دولة عربية في السابق فنحن اليوم نوحد 57 دولة إسلامية بالفعل ، وها هو المسلم الإيراني يذرف دموعه من أجل أطفال غزة تماما كالمسلم التركي والبنغلاديشي والباكستاني والاندونيسي. لم يكن العرب وحدهم من يتألمون لمعاناة نساء غزة وشبابها وشيوخها ، كان معهم مليار مسلم عبر الكرة الأرضية يتألمون ويصرخون ويطالبون بوقف العدوان وكسر الحصار.
مشهد رائع لم أشهد له مثيلا منذ زمن فالشارع الإسلامي تحرك كله حتى أولئك الذين يعانون ويلات لا تقل عن ويلات الفلسطينيين في غزة خرجوا يتظاهرون بالآلاف في العراق ويبكون لبكاء الفلسطينيين .
الشعب الإيراني المحاصر دوليا كان بدوره رائعا ومؤثرا ولم أتمالك إلا أن أهتز وأنا أرى النساء الإيرانيات يتبرعن براتب شهر للفلسطينيين والشيوخ الإيرانيين المعممين يبكون ألما لما يحل بأهل غزة والحكومة الإيرانية تسير سفينة محملة بالمساعدات والطواقم الطبية والشباب المتحمسين لنجدة الفلسطينيين، وأئمة إيران يحرضون الشباب المسلم على الجهاد من أجل فلسطين ويعدونه بالشهادة، ووزير الدفاع الإيراني يعلن استعداد بلاده لقيادة جيش إسلامي لتحرير فلسطين ونجدة غزة .
اللبنانيون بدورهم وبالاخص أهل الجنوب الرائعون المدهشون كانوا مصدر إلهام وفخر وأنا أرى زعيمهم نصر الله يخطب بقوة مدافعا عن الفلسطينيين وحقهم في الحياة، وتمنيت لو صدرت تلك الكلمات المؤثرة الملهمة من بعض الزعماء العرب في مواقع السلطة . شعرت ومعي الكثيرون بأننا أمام قائد حقيقي مؤمن يقول الحق ولا يخشى فيه لومة لائم ويفضح المؤامرات على هذه الأمة ويشرح لمن لم يفهم حقيقة الصراع اليوم بين برنامجين: برنامج يدافع عن الحقوق وآخر يفرط بها ....تابعت مئات آلاف اللبنانيين محتشدين يهتفون: " لبيك نصر الله....الموت لإسرائيل.....لبيك يا غزة" وشعرت بأن عزة هذه الأمة ستعود من بوابة المقاومة فمن يدفع الثمن من دمائه لا يحصد إلا الاستقلال والعزة والسيادة ومن يدفع الثمن من صمته أو تواطؤه لا يحصد إلا الخضوع والذل والإهانة والتبعية، وعلى الأمة اليوم أن تختار، فإما تخضع إلى الابد ولا تقوم لها قائمة بعد، وإما أن تقاوم وتدفع الثمن إلى حين حتى تنتصر إرادتها على إرادة الطامعين، والتاريخ يخبرنا أنه ما من محتل بقي وما من شعب فني، فالزمن يعمل معنا ولكننا نحن من يجب أن يعمل مع نفسه اليوم.
إلى الصامدين في غزة هاشم......دمكم وحّدنا، فبورك هذا الدم وبوركتم أطفال غزة ونساءها وشيوخها وشبابها ...يا من تروننا دروب العزة والكرامة.....بدمكم نحيا، وبدمعكم نموت...لا تذرفوا الدمع بل اسكبوا الدماء، فدمكم وحده من سيعيد هذه الأمة إلى وعيها ويطيح بالخونة ويوقظ الواهمين.
الانباط.