في صلب الحوار الدائر والهم العام الذي بات يتشعب ويتناسل ، والحوار والجدل الذي يمارس في جزء منه على مواقع التواصل الاجتماعي والذي يزعم كل واحد فيه أنه يملك الحقيقة المطلقة، ولا يقبل بالتنازل عن جزءٍ منها ، وفي ظل مشهد انتخابي مقبلٍ مشغول بالحسابات والتجاذبات أكثر من اشتغاله بالبرامج ، وفي ضوء أحداثٍ متلاحقة غيرت الكثير من الصور النمطية ، فإن الهم الثقافي ليس ترفاً !
بل إننا معنيون أكثر وأكثر بإعادة إنتاج الثقافة في مفهومها الواسع المادي والمعنوي إلى الاعتبار في المجتمع ، والتنبه لضرورة أن تنال الثقافة في سلوكها ومفرداتها والمكان الذي تستحقه ، والأردن في خمسينات القرن الماضي أدرج ضمن قوانينه البلدية ضرورة أن تضطلع البلديات بالدور الثقافي وأن تسعى إلى تكريسها كدورٍ من أدوار العملية التنموية .
هذه التجربة للأسف لم يتم البناء عليها ، أو تسخيرها تنموياً سوى في تجربة كانت ريادية لبعض الوقت في أمانة عمان الكبرى ، التي نجحت إلى حدود كبيرة في التأسيس لتجربة في كيفية تأصيل الثقافة كبعدٍ تنموي .
الإشكالية ليست في المؤسسات التنموية والمحلية وعلى رأسها البلديات فقط ، بل تتجاوز الحدود إلى غياب الهم الثقافي عن البرامج الانتخابية للسواد الأعظم من المترشحين ، وتتأمل الشعارات والبرامج ولا ترى سبيلاً أو سعياً صادقاً لإحداث هذا الفرق ، بما يبقي مثقفي الوطن وروافده حبيسين أمام مد الغياب .
بل وفي حديثك وحوارك مع كثيرين ، فأنك حين تحدثهم عن الهم الثقافي يحسبوك أنك تنطق ترفاً نسبة لمشاكلنا ، التي توصف بأنها مركبة .. فغياب الثقافة من أدبٍ ومسرحٍ يضاف له عزوف المثقفين عن الاشتباك بالهم العام والتصدي للمشاكل والقضايا اليومية ، وحالة الفصام التي تشهدها المنابر والمحافل الثقافية عن الهم العام هي مقدمات لها نتائج يمكن تلمسها بالوعي وانحداره على وسائل التواصل الاجتماعي -مثلاً - التي باتت فضاءً للجدل والخلاف والكراهية ، ومثال عليها أيضاً سعي الأجيال الشابة لبحثٍ عن نماذج للبطل مع كل قضية يومية ... فعلينا أن ندرك أن البديل عن غياب الثقافة هو ليس الجهل بل هو " اللاثقافة " وهذه منطقة ليست بوسطى بل هي حالة من الفراغ تشبه كثيراً مما نعيشه اليوم .. فالثقافة والوجدان وتشكيله ليس جائزة ترضية أو مجالاً للمناورة بل هو مفهوم سيادي بحاجة لمثقفين حقيقين يبعثون الروح في الأطر لا أن يجعلوا منها أطراً غارقة في البيروقراطية وإلا فإن النتائج ستكون أكثر قساوة!