وقفت الشابة الخجول متسمرة أمام مقاعد الجلوس الفاخرة، تتوسطها طاولة قهوة مزخرفة برسم طير محلق، يشبه العصافير الملونة المتناثرة على قماش المقاعد بانسيابية وأناقة فائقة. نظرت تلقائيا أو كما اعتادت أن تكون نظرتها الثانية، إلى البطاقة الموضوعة على طرف الطاولة، مسجل عليها ثمن غرفة الجلوس القديم المشطوب بالقلم الأحمر، وتحته يتربع رقم ليس سهلا أيضا، تطير بسببه أحلامها قصيرة المدى على جناح أحدى تلك العصافير المدللة.
كانت تعرف منذ البداية وفور دخولهما باب المحل المكيف بأنها مضيعة وقت مضافة إلى رحلة سعيها مع خطيبها المتفائل، للبحث عن أثاث غرفتي النوم والصالة اللتين قررا ، أو بمعنى آخر، اضطرا أن يقررا فرشهما فقط إلى جانب حاجيات المطبخ الأساسية، كي يتمكنا من فتح بيتهما المستأجر الصغير جزئيا، قبل موعد الزفاف بوقت كاف.
خبرتها الذكية وسرعة التقاطها للأمر الواقع، جعلها تعرف هذا الأمر مسبقا. إنما لم ترد أن تكسر مجاذيف حبيبها الحالم، الذي صدق رواية زميل عمله بأن صاحب المعرض من القلائل الذين يملكون ضميرا بين أضلعهم، وبأنه يشجع الشباب المقدمين على الزواج بأسعاره التشجيعية!
في الأثناء، وبينما تنقل عينيها بين باب المعرض ومشاهد تفحص خطيبها لغرف النوم، كانت تدخل صبايا في مثل عمرها يمسكن أذرع شركائهن بتردد يشبه ترددها في البدايات، سوف تتخلصن منه بعد مضي ثلاثة أيام على الأغلب، وصدمتهن بحقيقة سير الأمور في الحياة الطبيعية البعيدة عن الأغنيات والصور. كن يتسمرن مثلها أمام بطاقات الأسعار، ويتنهدن بأصوات عالية قبل أن يصطنعن ابتسامات لا مبالية على وجوههن المرهقة، قبل أن يغادرن بشركائهن المحلات من أوسع أبوابها.
في الخلفية صوت التاجر يحلف أغلظ الأيمان وبالطلاق من زوجته، بأن عفش المكتب الجديد الذي يبدو أنه يخص نائبا في البرلمان، لأنه كان يظل يردد “سعادتك سعادتك”، لم يربح منه قرشا واحدا، بل إن أجرة العمال والتركيب على حسابه أيضا، طالما كان سعادته راضيا وسعيدا.
شعرت بالتعب وهي تنتظر بصبر شديد آخر آمال زوج المستقبل، وهي تتحطم على باب خزانة مثلا، لم ينفك يفتح ويغلق دروجها بثبات يحسد عليه!
سمعت حوارا شيقا بين أحد عمال المحل الوافدين، يتحدث بلهجة محلية مكسرة مع سائق يعمل لدى رجل أعمال معروف، تردد اسمه في الحوار الذي لم يحمل حبا كبيرا من الطرفين تجاهه. فعلى ما يظهر جليا أن الرجل لم يكن لطيفا جدا مع العامل الوافد وهو يطلب معلمه عبر الهاتف أول من أمس، ليوصيه بأن يلف الأثاث المرسل من محله إلى بيته بشكل جيد بأكياس تابعة لشركة أثاث أجنبية معروفة، لتحمله فيما بعد سيارة شحن مستأجرة هي وسائقها، من مؤسسة نقل وتوصيل عالمية.
تحدثا مطولا حول مظاهر البهرجة الخداعة في الحي الذي يقطن فيه رجل الأعمال. وتعاطف العامل كثيرا مع سائق “المستر”؛ حاملا هموم البيت وأسراره وأمراض قاطنيه النفسية والاجتماعية، حتى إنه قام ليصنع له فنجان قهوة مخصوصا لأجله.
اقترب منها خطيبها بدون أن تشعر. لامست كفه شعرها المنسدل على نصف وجهها، فانتبهت له وهو يبتسم بحياء يعتذر عما تعودت أن تسمعه منه منذ أسابيع. وعدها أن يستمع إليها من اليوم وطالع، وأنه سوف يمد أطراف أحلامه على مقاس فقره وقلة ذات يده.
ثم، حتى لو كان يملك فعلا ثمن الغرفة التي أغرم بها اليوم، لم يكن باستطاعته شراءها هي بالتحديد. فللأسف الشديد تبين بعد أن انتبه صاحب المعرض لتعلقه بها، أنها أصلا مباعة !
الغد