أتاحت لي فرصة العمل كمستشار فني لوزير المياه والرّي لمدة سنة ونصف ،وكان ذلك ما بين عامي 1999-2000، الاطلاع عن قرب على الجهود الجبارة المبذولة والتكلفة العالية لإيصال مياه الشرب الصالحة لكل بيت في الأردن .فأول مشكلة تواجهها الوزارة هي بعد مصادر المياه عن أماكن الاستهلاك وهذا ما يتطلب نقل هذه المياه عن طريق مدّ أنابيب معدنية بأقطار متعددة الأبعاد ولمسافات تصل لمئات الكيلو مترات ،وهذا ما يستلزم محطات ضخ عملاقة تعمل بالطاقة الكهربائية وكذلك محطات لتنقية المياه والتأكد من وصولها للمستهلك حسب المواصفات العالمية وذلك بمتابعة حثيثة من قبل المختبرات التابعة لسلطة المياه والمنتشرة في كافة محافظات المملكة .ولإنجاز كل هذه المهام الصعبة ،فهذا يتطلب كادر وظيفي بفوق تعداده الخمسة عشر ألف موظف.

بعد هذا الإيجاز ،لكم أن تقدّروا المبالغ الطائلة التي تصرف على هذا القطاع والتي تفوق بأضعاف مضاعفة ما يتم تحصيله من المستهلكين كأثمان مقابل خدمات توصيل المياه لبيوتهم .
وهنا لا بد من توضيح بأن سلطة المياه لا تتقاضى اثمان للمياه (المياه لا تقدّر بثمن )وإنما تتقاضى أثمان تكلفة نقل وتنقية وتطهير المتر المكعب من المياه لكل منزل .
بنظرة شاملة لقيمة فواتير المياه التي يدفعها المستهلكون ،نجد أن 80% منها تكون قيمتها ما بين 7- 15 دينار تدفع كل ثلاثة شهور .وهنا سأناقش تحليل فاتورة الحد الأدنى والتي يمكن القياس عليها للشرائح الأكثر استهلاكا ،فعندما نقول سبعة دنانير كل ثلاثة أشهر مقابل استهلاك 18 متراً مكعباً ،فهذا يعني أننا ندفع يومياً 8 قروش. وهنا لاحظوا 8 قروش مقابل المياه المستهلكة في الجلي والغسيل والحمام والمراحيض وأعداد الطعام وأحياناً في سقاية الزراعات المنزلية .وعلى المقلب الآخر نجد أننا ندفع وبالمتوسط دينار واحد مقابل عبوة مياه شرب سعتها 20 لتر ،وتحتاج عائلة مكونة من خمسة أفراد إلى استهلاك عبوة كل يومين ،أي بمعدل 15 عبوة بالشهر ،و45 عبوة كل ثلاثة أشهر بتكلفة 45 دينار .
لاحظوا البون الشاسع بين ما ندفعه للسلطة ،7دنانير مقابل 18 متراً مكعباً كل ثلاثة أشهر ،و45 دينار مقابل 45 عبوة كل ثلاثة أشهر بسعة 20 لتر (بأجمالي 900 لتر ) أي أقل من متر مكعب .
قد يقول البعض بأن المياه التي تأتينا عن طريق سلطة المياه غير صالحة للشرب وهذا ما يكبدنا مصاريف إضافية لشراء عبوات المياه الصالحة للشرب ،وهنا أقول وأؤكد على قولي بأن مياه السلطة صالحة للشرب 100% وهي أكثر صلاحية من مياه العبوات ،ولكن ما يحدث أن التلوث يأتي لمياه السلطة عندما تدخل إلى خزانات المياه الخاصة بنا ،حيث أثبتت الدراسات التي تقوم بها السلطة أن المواطنين لا يتفقدون خزاناتهم المنزلية ولا يقومون بتنظيفها بشكل دوري ،فكثير من الخزانات تكون فاقدة لأغطيتها ما يتيح الفرصة لدخول الحشرات وحتى الطيور إلى داخلها ،وكثيراً ما كان يعثر على طيور نافقة داخل الخزانات .
أخيراً أقول ،وأعلم مسبقاً أن قولي هذا لن يرضي معظم الناس ،أن ثمن تكلفة إيصال المياه لمنازلنا يجب أن لا تقل عن دينار للمتر الواحد .وهذا يعني أن الشريحة التي تستهلك الحد الأدنى (18متر مكعب كل ثلاثة أشهر ) ستصل قيمة فاتورتها الفصلية (3 شهور) 18 دينار أي بمعدل 20 قرش يومياً .فهل هذه القروش العشرين عاد لها أية قيمة في هذه الأيام .