مجزرة غزة .. وثقافة التخوين
30-12-2008 03:32 PM
لا اعتقد ان هناك شعبا في العالم ، يهوى ممارسة توجيه تهم الخيانة والعمالة ، كما هو حال الشعب العربي ، حتى اصبح التخوين جزءا اساسيا من ثقافة المواطن العربي ، وهي صفة مكتسبة ، ترعرعت في الاربعينات والخمسينات والستينات ، على اثر نكبة فلسطين ، وما افرزته من هزائم ، استدعت من اطراف ما الدفاع عن نفسها ، فكان الهجوم على الاخرين ، واتهامهم بالخيانة ، لتبرير ضعفهم او غبائهم او تواطؤهم ، هو خير وسيلة للدفاع عن انفسهم .
لقد خيل لنا ان هذه الثقافة بدأت بالتلاشي مع نهاية الستينات ، في اعقاب هزيمة حزيران 1967 ، حين اصبح التوجه العربي العام اكثر عقلانية ، حيث بدأت مسيرة الحل السلمي ، بقبول قرار مجلس الامن الدولي 242 ، وبدء شعار التضامن العربي ، الذي كانت سوريا بقيادة الرئيس الراحل حافظ الاسد ، قد اعطته زخما قويا بعد عام 1970، فلم يعد هناك انظمة تقدمية وانظمة رجعية ، فلكل دوره في مسيرة التضامن العربي ، وحتى الحلم العربي بالوحدة ، والذي كان يتجاذبه تياران ، احدهما يطالب بها وحدة للأنطمة التقدمية فقط ، اصبح في ظل التضامن العربي حلما يطلب من الجميع ، لان الوحدة هي الوحدة ، وهي الهدف الاسمى للجميع .
ثقافة التخوين العربية ، هي نتاج القمع الفكري ، وانعدام حرية الرأي ، وقمع الرأي الآخر ، لكي تصبح جميع الآراء نسخة عن رأي صاحب القوة والنفوذ ، وعلى الجميع ان يتقمص هذا الرأي ، وان يظهر القناعة به ، ليس من مبدأ احترام والتزام الاقلية برأي الاكثرية ، بل من مبدأ القمع والقهر والتسلط ، ولعل نتائج الاستفتاءات العربية التي كانت لا تقل عن 99% ووصلت في مراحل متقدمة الى 100% هي احدى مظاهر هذا القمع والتسلط .
وما دمنا بصدد الحديث عن غزة وفلسطين ، فلا بد ان نتذكر ان اكثر ابناء فلسطين ، الذي تعرض لتهم العمالة والتخوين ، هو المرحوم ياسر عرفات ، وكلنا يتذكر ايضا صلابته في مفاوضات كامب ديفيد الثانية مع ايهود باراك ، وبرعاية الرئيس الامريكي الاسبق بل كلنتون ، حيث رفض بكل عناد التنازل قيد انملة في موضوع القدس وحق اللاجئين في العودة ، فكان ان قال له الرئيس كلينتون قولته المشهورة " انني سوف اكون اخر رئيس امريكي يصافحك " وهذ ما كان ، عندما جاء الرئيس الامريكي الحالي بوش ، وقاطع عرفات ، ثم كان حصاره في المقاطعة عام 2002 بعد اجتياح الضفة الغربية ، وما حدث من مجازر مماثلة لمجازر غزة ، واستمر حصار عرفات حتى اخر لحظة في حياته ، والتي يقال انها انتهت بالاغتيال سما ، فماذا يقول الآن من امتهنوا اتهامه بالعمالة والخيانة .
الاتهامات التي اعتدنا سماعها من الرسميين العرب واجهزة اعلامهم ، انسحبت ايضا على الشارع ، وفي نفس المجال ، اذكر انه وبعد الاعلان عن اتفاق غزة – اريحا اولا ، عام 1994 ، ودخول قوات الشرطة الفلسطينية لمناطق السلطة ، سمعت يوما احد اصدقائي المعارضين لاتفاق اوسلوا ، يقول متهكما ، ان الشرطة الفلسطينية غير فلسطينية ، ويقصد انها مرتزقة ، اضافة الى اتهامات اخرى بالبطش للفلسطينيين ، وعندما وقع الاجتياح الاسرائيلي السابق للضفة الغربية ، سقط من الشرطة الفلسطينية العديد من الشهداء دفاعا عن شعبهم ، يقارب ما سقط من الاخرين ، فلماذا كانت هذه الاتهامات الباطلة ، والتي لا اعتقد ان اصحابها قد تراجعوا عنها ، فقط من اجل المكابرة .
اليوم تتجدد معزوفة التخوين ضد السلطة الفلسطينية في رام الله ، وضد انظمة عربية اخرى ، مترافقة مع المجازر البشعة التي ترتكبها اسرائيل ، ضد الابرياء من ابناء القطاع ، وهي اتهامات تعمق الانقسام ، وليست في مصلحة الشعب الفلسطيني ، وهي قبل ذلك ، غير مثبته بالدليل القاطع ، وانا هنا لا اود الدفاع عن احد ، بل ادعو الى عدم القاء التهم جزافا ، لما لها من آثار مستقبلية سلبية على العلاقات العربية العربية .
لله در القضية الفلسطينية ، كم سقط من اجلها ضحايا ابرياء بتهمة العمالة والخيانة ، اما اغتيالا جسديا او اغتيالا للشخصية ، ورغم ان الزمن اللاحق قد انصف العديد منهم ، فثبت ان سياساتهم هي السياسة العقلانية الفاعلة ، الا ان اخرين ما زالوا ينتظرون الانصاف .
ندعو لاهلنا واخوتنا في غزة بالفرج القريب ، من هذا المصاب الذي أدمى قلوبنا ، وان تتلمس الامة الطريق القويم ، لنجدتهم ومساندتهم وانهاء معاناتهم .
m_nasrawin@yahoo.com