البائس؛ إن تمادى في بؤسه، إما أن يٓهْلِك أو يُهْلِك من حوله. والطاغية إن تمادى في طغيانه، إما أن يٓهْلِك أو يُهْلِكْ شعبه! كذلك "الزّنّان"!
في طفولتي؛ كنت هادئة، خجولة، قليلة الكلام، وأعشق العزلة. حتى في الأيام التي كان يعج فيها بيت جدي بالناس -ذلك البيت الذي نشأت فيه- اعتدت الاختفاء والتسكع في الحاكورة للهروب من جلبة الناس! كنت أحكم على الناس من خلال هدوءهم وقلة حديثهم.
انقضى عهد الطفولة وولت أيام الحاكورة، على الرغم أنها ما زالت في أحلامي. وها أنا الآن أتربع على قمة هرم العمر. وأنا التي كنت أستجدي شجاعتي للتفوه ببعض الحديث، قد تضطر صديقتي "أم العبد" أو إحدى شقيقاتي أحيانا في الوقت الحالي لإسكاتي باستحضار جملة الممثل يونس شلبي في مسرحية العيال كبرت "خُش ربنا يهدك" !
أصبحت كثيرة الكلام لدرجة تبعث الملل في نفوس من حولي. ولم يقتصر الأمر على كثرة الكلام فحسب، بل أصبحت أتقن فن "الزّن"! نعم زنانة محترفة أنا!
وفن الزّن، فن لا يتقنه سوى عاشق، للحياة وللناس، ذلك أن الزّنان ما أن يفرح أو يغضب أو يثور أو يحب، حتى يلجأ وعلى الفور لشخص -وقد يكون الوحيد في العالم- ترتقي به روحه ليفضي له ما بداخله من ناحية، أو ليستجدي منه ولو نزر يسير من الحنان. وربما قد يمارس زنّه بدافع السرقة! سرقة حاء أو ياء أو ألف أو حتى تاء مربوطة من معاني الحياة. لا بد أنه فن كريه قد ينعكس عليّ شخصيا لأصبح بالضرورة كريهة أيضا. لكن؛ قد لا أبالي بصورتي إن كان زني ذلك مع أحبة، قد يكابرون على أنفسهم لاحتمالي ولو من باب المعروف، وتلك أيادٍ أحمل لطف صنيعها على عاتقي ما حييت!
والآن؛ وعلى الرغم من إدراكي بأنني لم أخلق كي أصمت! وبحجم النشوة الرعناء للحياة التي تعتريني، وبقدر الطاقة المبذولة بسخاء، والرغبة الجامحة في الكلام والفرح؛ فقد قررت إقامة الحد على عادة الزّن القميئة تلك! والعودة إلى عهد الطفولة! لٓعلّي. أسترد بعضا من لارا القديمة، الصامتة، وربما أتفادى جملا مثل: "لارا.. بكفي زنّ"! و"ارحمي البشرية"، و"يا لارا مَش وقته"! و/أو "حلي عنا"!
قد يسيل بذلك الصمت قليلا قاتما من ثقب روحي، لكن، لا بأس؛ أن أٓهْلِك خيرٌ من أن أُهلِكْ!