كانَ الحلُّ الأخيرُ في الشام، هناك حيث الطبيب الذي سينقذ عين الصبي الذي اقتلعت عينه بطرف منجل الحصاد، وقبل تعلم أبناء البدو والفلاحين شرق النهر كان الحلُّ الطبيُّ في القدس، لا يكلفك الأمرُ أكثر من عبور "الشريعة" بعد أن ترهن قطعة الأرض الوحيدة لأحد مرابي القرية ليعطيك بعض "النيرات" وتقصد بابًا كريمًا وتردد على الطريق "الله بالمعينات". هذا كلامٌ قديم، قديمٌ جدًّا، أقدمُ من هوشة شاب من الشقيرات مع جابي الضرائب القادم باسم عبد الله الأول. قديمٌ لأننا اليوم وبكل فخر ننعمُ بنعمة السياحة العلاجية في الأردن.
المستشفيات في كل مكان، والإعفاءات على حافة الديوان الملكي وفي جيوب النائب المهرج ومع موظف مجلس الأمة وفي "تابلو" مركبة مدير مكتب سعادة النائب أو في معطف سائق الوزير الذي عاد قبل قليل من صالون السيدات حيث حلقت زوجة الوزير شعر ساقيها. كذلك معنا تأمينات صحية من الشركات التي نحرثُ في مكاتبها وتخصمُ منّا مبلغًا محترمًا من رأس كل شهر. الذي فقد هذه المزايا عليه بواسطة ضابط متقاعد كان في القطرانة وتقاعد ليلبس ثوبه الأبيض ويستخدم هاتفه لحجز دورك في مستشفى إيدون أو المدينة الطبية. الحلول كثيرة.
تذهبُ بكامل إرادتك وتدخل باب العيادة، تكون أمام نموذجين: طبيب يأمر السكرتيرة التي تتقاضى مئة دينار "شغلي قرآن كريم دائما"، والنموذج الثاني يختار موسيقى لشوبان أو موزارت ويقدم للسكرتيرة الراتب ذاته. تتمددُ على السرير وأنت على يقين تام بنجاح هذه الزيارة، تحدقُ في الطبيب وتنهلُ من عينيه كل أمان الدنيا، تراقبُ النعمة البارزة على وجهه، يضحك معك، يحدثك عن معارفه من عشيرتك، عن حبه لهذه العشيرة وصداقته مع ابنها فلان الذي سكن معه في المزة بينما يدرسان في الشام. الأمان كبير وأنت تخلع ثيابك.
يشخصك الطبيب ويستهزئ من تشخيصك القديم الذي كتبه طبيب آخر، ثم يغير العلاج ويُحَوّر التشخيص ويقنعك بكل السبل أنك "حمار" لأنك وثقت بالطبيب القديم، وإذا شعر أنك تائه بين هذه الخيارات يصدمك بكلمات إنجليزية متداخلة ويشرح لك بسرعة كبيرة واصطلاحات عجيبة ملخصًا حالتك المرضية التي لم تفهمها حتى الآن. لا شيءَ أسهل من قرار العملية، يحفر في جسدك بحثًا عن مبلغ يقصهُ من جيبك، وينهشُ لحمك بحثًا عن مراجعات أكثر، وليعيدك إلى خانة الثقة بينما تشك بكلامه سيقول لك "لا ... وضعك هيك صعب لازم اشوفك كل اسبوع.. بلا وسوسه".
ستخرجُ من عنده، وستندهش الدهشة الكبرى إذا سُئلت "شو حكالك الدكتور!"، ماذا ستجيب، هل ستجيب بـ "بعرف ناس كثير من العبيدات" أم "الدكتور أكل من كباب لعبيدات زمان وجاي على باله" أم "الدكتور حكالي أنه دكتوري القديم حمار" أم "حكالي اني كويس بس..." هذه الـ "بس" لا شيء بعدها إلا جشع الطبيب الذي ضيع مرضك منك أو يحاول العثور عليه بينما ينهش جيبك أكثر. ويؤكد لك "بلا وسوسه".
* أنا مواطن دفعَ ضعف دخله السنوي للأطباء في شهرين، ومثلي ملايين البشر الغرقى في جشع أبقراط.