التعليمات الجديدة التي تدخل حيز التنفيذ في الأول من الشهر المقبل والتي تسمح وفق شروط معينة بتزويج من بلغ/ بلغت الخامسة عشرة من العمر، تضرب عرض الحائط بكل الإصلاحات الاجتماعية التي انتهجتها المملكة مؤخرا، والتي طالت بشكل إيجابي في بعض جوانبها قوانين الاحوال الشخصية والعقوبات قيد البحث في مجلس النواب حاليا.
التعليمات تلك تثبت أن القوى الراديكالية والشد العكسي قوية ونافذة وفاعلة، ويتضاعف نفوذها وقوتها بشكل لافت، وتثبت أننا ما نزال ندور في حلقة مفرغة بحثا عن دولة حضارية مدنية موعودة وغير مرئية حتى اليوم، رغم كلامنا عنها والتبشير بها صبح مساء، حيث نجترُّ مرارة افكار قبلية وغير إنسانية دون أن يكون لدينا قدرة القفز عنها.
فالدولة العصرية المدنية محكومة بقوانين وأنظمة عصرية ولا يجوز تكبيلها بتعليمات من العصر الحجري، تكرس الانجرار وراء قوى شد عكسي اصولية، ترفض أن يتم تحديد سن الزواج بثمانية عشر عاما كما ورد في قانون الاحوال الشخصية، والنفاذ من بعض جوانب القانون الذي منح حق الاستثناء لإصدار تعليمات تسمح بتزويج بنت أو ولد ممن يبلغ 15 من العمر، فالأصل والأجدى كان أن تذهب الحكومة لإجراء تعديل على قانون الأحوال الشخصية تشطب بموجبه الاستثناء الموجود، وليس تكريسه والتأصيل له.
الحقيقة الثابتة انه مهما وضعنا شروطا ومحددات لتقييد التعليمات والاستثناءات إلا ان تلك الشروط تبقى غير واقعية وسينفذ منها الناس لتزويج طفلات قاصرات بالشكل الذي يريدون، وهذا بحد ذاته مخالف لكل المواثيق التي وقّعنا عليها والمتعلقة بحقوق الطفل والمرأة والإنسان.
التعليمات نصت على جواز أن يأذن القاضي بزواج من أكمل الخمس عشرة سنة شمسية من عمره ولم يكمل الثامنة عشرة اذا كان في زواجه ضرورة تقتضيها المصلحة، بحيث يكون الخاطب كفؤا للمخطوبة، وأن يتحقق القاضي من الرضا والاختيار التامين، وأن تتحقق المحكمة من الضرورة التي تقتضيها المصلحة وما تتضمنه من تحقيق منفعة او درء مفسدة وبما تراه من وسائل التحقق، وان لا يتجاوز فارق السن بين الطرفين الخمسة عشر عاما، وأن لا يكون الخاطب متزوجا، وأن لا يكون الزواج سببا في الانقطاع عن التعليم المدرسي، وإثبات مقدرة الخاطب على الإنفاق ودفع المهر وتهيئة بيت الزوجية، وإبراز وثيقة الفحص الطبي المعتمد.
لكن مع ذلك فإن الواضح أن كل تلك الشروط مهما بلغت درجة تشددها وتقييدها، والتضييق فيها إلا أن البعض سيجد فيها مجالا للنفاذ لتزويج فتيات قاصرات بشكل غير انساني، وسنسمع لاحقا عن حالات تزويج كثيرة لمن هن دون سن الثامنة عشرة.
الأصل ان نحافظ على نصوص القوانين لدينا، وان لا نفرغها من محتواها الإصلاحي عبر تعليمات، وأن يبقى سن الزواج 18 عاما رغم إيماني انه حتى سن الـ18 كعمر غير مناسب للزواج، ولكن بما أن القانون نص عليه فما الذي يدفعنا لإصدار تعليمات تسمح بتزويج من هم اقل من ذاك السن؟!.
لا أرى مبررا واحدا يسمح لنا الذهاب لاصدار تعليمات تخفّض سن الزواج حتى 15 عاما سوى الرضوخ لضغوط قوى شد عكسي راديكالية، تريدنا البقاء في محيط العرف والتقليد والعادات والعصر الحجري، ولا تريدنا أن نذهب لبناء دولة عمادها القانون والمواطنة والمساواة.
وقبل أن يخرج علينا من يدافع عن التعليمات ويعتبرها قاسية وتحقق شرط التشدد، إلا أن النص على الاستثناء يبقى نصا غير مبرر، ولا يساهم في قيام دولة مدنية حضارية، ما نزال نتحدث عنها في المناهج والمحاضرات وعبر وسائل الإعلام المختلفة، لكنا عند التطبيق على أرض الواقع نذهب باتجاه التفكير بشكل رجعي، عبر تعليمات تجيز اغتصاب طفلة في سن الخامسة عشرة!.
الغد