اذا كان هذا النص مديحاً، فليكن. فالصديق عزمي بشارة ليس فكرة محايدة، بل هو اعتداد الفكر بذاته في مشهد العاصفة، وعينها.
هكذا تجري المفارقات، او هكذا يُصنع المسرح الواقعي: رئيس الشاباك يصرح بأن العرب خطر استراتيجي على دولة اسرائيل. والجموع الاسرائيلية مشغولة بنتائج الحرب الاخيرة. وبيهودية الدولة ايضاً. وبأن عرب اسرائيل لم يؤيدوا حربها على عرب آخرين. ثم تحذر شولاميت الوني النائبة السابقة، ورئيسة قائمة حقوق المواطن، زميلها عزمي بشارة. ولكن مم تحذره؟ من رئيس الشاباك يوفال ديسكين. وبأنه يحيك له ملفاً للمساومة او للمقاضاة. فالشاباك مخول بذلك وقادر عليه، ثم تبدأ عمليات انتاج آليات الخفاء والاختفاء كجزء من الملف، فيختفي عزمي، ويسرب خبر استقالته من الكنيسيت. ويبدأ نيسان طقوسه، بالتذكير بدير ياسين، التي اقيم على اراضيها، واراضي لفتا مبنى الكنيست الحالي، ومنها الى الجامعة العبرية، التي درس فيها عزمي بعد جامعة حيفا، وتزداد محنة الرجل، بالتذكير انه اكمل دراسته العليا بامتياز في المانيا، وليس في الولايات المتحدة الاميركية فتكتمل طقوس المحرقة.
قبل ثلاث سنوات، التقيته صدفة على الجسر، هو قادم الى الاردن، وانا احاول ادخال جثمان شهيد من الانتفاضة، مات اثناء العلاج هنا. لم يستغرب. فأرض فلسطين التاريخية تستعصي حتى على جثث ابنائها.
من هنا يبدأ جهد عزمي بشارة الفكري. ومن هنا يبدأ مشروعه السياسي. يحلو لهم ان يصفوه بأنه شخصية مثيرة للجدل. لانه ينتقد عنصرية اسرائيل، في التعامل مع مواطنيها. ولأنه يركز على العلاقة بين القومية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ولأنه يسعى الى تعميق مفهوم المواطنة، وفصله عن الانتماء العرقي او الاثني او الديني. ولأنه يدافع عن مفهوم دولة المواطنين في اسرائيل، ضد يهودية الدولة.
ارتبك بعض الاصدقاء، قبل سنوات، حين رشح عزمي نفسه لرئاسة حكومة اسرائيل. في محاولة لكشف عنصرية الدولة تجاه مواطنيها. واليوم، تحاصر فكرته وشخصه محاولات الأجهزة الأمنية. اما على الارض، فالأنباء تقول ان السلطات الاسرائيلية وضعت يدها على الحي العربي القديم في عكا، لتحويله الى مكان لممارسة فناني اسرائيل لابداعهم التشكيلي..!!.
ابن الناصرة. وابن البلاد الناتئة على الخريطة. وابن العائلة العربية المسيحية الارثوذكسية. لا يملك الا ان يكون حكاية فردية. هي في جوهرها عنوان لما تبقى من فلسطين العربية. فالروح حين تغادر الجسد تمثل اعتراضا على الموت، ورفضا لان تسكن الجثة. فحكايات الافراد، حين تصير عناوين، تخف، وتصير هي المكان ذاته. لكنها، بوصولها الى حافة الفكرة، تخرج بالمكان من حدوده، وتخرج بذاتها من حدودها السياسية، لتصير حالة انسانية.
صحيح، ان كل يقظة لا تكون إلا محمولة على ذكريات نوم غامضة. لكن الفشل الحقيقي هو العجز عن تحويل الواقع الى حلم يعيشه الناس. فبديل العلم هو تفشي العجز المراقب محل تفوق الحكماء.
من عاداتنا، ان يذهب اللامع فيتكاثر عارفوه، ادعاء. ومن عاداتنا الاستغراق في تخيل اشكال الوهم، بعد تكسر الاحلام. وقد تهرب الغايات من طالبيها. غير ان لنا شواذات تثبت قاعدة الاحلام. فالاشياء لها طباع. ومن طباعها، ان الأفكار تلعب لعبة الجلاد، حين تريد، ولعبة الضحية، حين تريد ايضا. وعزمي بشارة فكرة يقظة عربية لم تكتمل. فكرة تحاول الوصول الى الحافة.. في زمن خلعت فيه البشرية اقنعتها، واستمرأت الصمت.
FAFIEH@HAOO.COM