ان بزوغ الفكر السياسي الحديث الداعي الى تأسيس كيان عربي مستقل، ارتبط باهتزاز شرعية الدولة العثمانية وفشلها في الحفاظ على استقلال اجزاء العالم العربي في وجه المخططات الاستعمارية، وواكب ذلك ظهور أفكار مهمة ساعدت في تأطير الهوية العربية على يد عدد من رموز الفكر العربي مثل محمد عبده وتلميذه رشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي وبطرس البستاني وناصيف اليازجي وساطع الحصري وغيرهم.
يمكن القول ان تأسيس الجامعة العربية جاء في إطار متفق مع تصورات الجيل المسمى بالاتحادي الدستوري الذي نشأ في احضان جمعيات وافكار كانت تهدف الى تأكيد وجود العرب كقومية مستقلة.
لقد احاطت بنشأة الجامعة العربية سنة 1945م ظروف اقليمية ودولية فرضت عليها العديد من القيود، وعلى رغم ذلك فلا يمكن انكار ان الجامعة العربية ظلت تجسيدا لفكرة وجود القومية العربية ذاتها.
لقد ادت التطورات المتسارعة التي شهدها الاقليم العربي خلال الاعوام القليلة الماضية الى اضعاف واطاحة العديد من النظم السياسية القائمة وهو ما خلق تشابكات معقدة بين الدائرة العربية وبين دوائر اقليمية ودولية محيطة، وأصبح التوصل لحل المشكلات العربية يعتمد بالأساس على رؤية عواصم غير عربية يميل بعضها الى استخدام منهج التجربة والخطأ في علاج الوضع العربي وهو منهج ادى الى كوارث سياسية وانسانية غير مسبوقة.
أفضت هذه التحولات الى تغيير مدلول العروبة ذاته بحيث تحول الى مفهوم قابل للذوبان في دوائر أخرى.
أصبح البحث عن امتدادات خارج الدائرة العربية معتادا وشائعا.
لا تعرف السياسة تطابقا كاملا في المصالح بين دولة واخرى مهما كان حجم المصالح المشتركة بينهم، بل ان الدول الفدرالية تعرف احيانا اختلافات في الرؤى والمصالح بين الوحدات المكونة لها.
تختلف الرؤى وتتنوع في عالمنا العربي وفق اعتبارات عدة، الا ان التواصل بين هذه الدول لا ينبغي له ان ينقطع.
اعتدنا في عالمنا العربي ان نتعايش مع الكثير من الكوارث والازمات، الا ان التدهور السريع الذي نشهده يتطلب تفعيل الادوات كافة التي تمتلكها الدائرة العربية ومن بينها الأداة الدبلوماسية التي تتكلم باسم العرب في المحافل الدولية
وهذه الادوات مطالبة بتوسيع آفاق عملها من خلال طرح مبادرات فعالة على المستويات النخبوية والشعبية تحمل في طياتها محاولة لعلاج الوضع العربي.
لكن الوحدة الثقافية موجودة والتجربة الحضارية في الذاكرة التاريخية حية ومتوافرة، واهمها الوحدة في الضمير الشامل التي يعيشها كل فرد من الدار البيضاء للموصل دون اي نقاش ولا تساؤل يشعره كواقع مزدهر لا يحتاج الى مراجعة، وواضح وضوح الشمس ضمير واحد يفرض نفسه على القادة العرب على الخصم وعلى العدو في قلب امة العرب وعلى الاعداء من غير العرب، انه شعور واحد تقرأ تفاصيله بعين واحدة.
هذه الارضية الصلبة يجب ان يحميها سقف واحد يحفظ مصالح الجميع، رغم التجربة المرة في العقود الاخيرة خلال سني التراجع والخسارة المستمرة التي ضاعت بها فلسطين وسوريا وليبيا والعراق واليمن، وإذا لم نتدارك الامر ستضيع بلدان اخرى!!!
كمثال لقد فرضت اوروبا وحدتها على العالم رغم كل ما في تاريخها من حروب وعداوات، تلك الوحدة التي نهضت فقط لضمان مصالحها.
حدث ذلك دون أرضية ثقافية موحدة ودون لغة موحدة ولا تجربة حضارية موحدة، عدا تجربة الصراع الدموي بين شعوبها.
يجب ان تتجه عيون مسؤولينا الى انشاء بنية اساسية استراتيجية شاملة تضم سائر الدول العربية ،بنية فكرية واقتصادية ترافق بنية دفاعية لردع طمع القريب ولصد عداوة مغتصبي القدس وفلسطين .
عندما احتل الصليبيون القدس فلم تتحرك الدولة الفاطمية في مصر للدفاع عن المقدسات، حتى جاء صلاح الدين واسقط الدولة الفاطمية في مصر ودعا للخليفة العباسي في المنابر وارسل لمساعدته لواءين من بغداد وجمع الجيوش وتحرك بهم واجتمع مع 48 جنرالا في قلعة عجلون لوضع الخطة الحربية ونزل بهم الى حطين قرب بحيرة طبريا وكسر جيوش الصليبين وانتصر عليهم.
لكن الحلف الايراني – اليهودي له تاريخ عميق تجدد سنة 523م ،عندما ساندت دولة الفرس يهود اليمن الحمريين ضد الهجوم الحبشي.
أما قبائل الحوثيين في اليمن ليست تاريخيا الا بقايا هذه القبائل ،لذلك فان ارتباطها بطهران ليس اساسه ارتباط مذهبي ،حيث من الدول الاولى التي اعترفت بإسرائيل عام 1948م كانت ايران ،وتاريخ العلاقات الوطيدة بين اسرائيل وايران بعد الثورة الاسلامية وجد ذروته بفضيحة ايران-غيت وصفقة الاسلحة الاسرائيلية لإيران ،العملية التي قادها الكونوليل بامر من البيت الابيض ومباركة الامام الخميني خلال الحرب العراقية الايرانية ولم تنته امواج هذا التقارب الى يومنا هذا فأساسه فقط المصالح المشتركة.
اذا فهمنا الاخطار فيجب التحرك لوضع الاساسات المشتركة والمضي في وضع قواعد التضامن الاستراتيجي لرد الاخطار التي تهدد العرب وتاريخهم ومستقبل الاجيال القادمة.
اذا سلمنا بنظرية الدورة التاريخية ،فإننا نجيز لأنفسنا تطبيق هذه النظرية على الافكار ،فتاريخيا هناك صراع فكري بين رؤيتين احداهما منفتحة والاخرى مغلقة ،وكان ذلك هو الواقع مع المذاهب السياسية الوضعية كما هو ايضا مع العقائد والمذاهب الدينية.
الافكار هي في النهاية استجابة وتعبير عن واقع موضوعي ترتقي في لحظات النهوض وتتراجع في لحظات الضعف.
نشأت الايديولوجيات السياسية في التاريخ العربي كانعكاس لأفكار تلاحقت مع الفكر الانساني العالمي وتماهت مع شعاراته.
تأثرت حركة اليقظة بشعارات الحرية والاستقلال وطمحت للخلاص من السيطرة العثمانية ،لتأسيس هوية عربية معاصرة تتسق مع الافكار الحديثة التي ارتبطت بالتحولات السياسية الكبرى في القارة الاوروبية، وحين طعنت النخب العربية في حلمها بتشكيل دولة عربية مشرقية ،بعد وضع اتفاقية سايكس وبيكو سنة 1916م قيد التنفيذ وبداية الهجرة اليهودية الى فلسطين ،تنفيذا لوعد بلفور سنة 1917م،بدأت الابواب مفتوحة لتيار الاسلام السياسي لتحل محل النخب التي قادت حركة اليقظة العربية بعد الحرب العالمية الثانية ،ثم بدأت الانقلابات العسكرية في عدد من البلدان العربية احتجاجا على واقع مأزوم وكردة فعل على نكبة فلسطين ،ونتج عن الانقلابات العسكرية المتتالية في الوطن العربي تجريف الحركة السياسية واقتصر العمل السياسي على الاحزاب الحاكمة.
كانت الجهة الاقدر على احتكار العمل السياسي خارج السلطة في مثل هذه الظروف هي مجموعة الاسلام السياسي التي استغلت مفهوم الدعوة لتوسع من دائرة حركتها انطلاقا من ارض مصر .
ليس من شك ان نكسة عام 1967م قد اسهمت في انهيار الفكرة العربية ،التي بدأت حركة اليقظة العربية التبشير بها منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر الميلادي وتواصلت بين الحربين العالميتين واستمرت في خط بياني حتى النكسة.
لكن كمثال على تاريخنا الماضي فهل يمكن ان يأتي يوم على بلاد العرب والمسلمين مثل تلك الايام في عهد الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز حفيد عمر بن الخطاب :
حيث يتجول المنادي في الشوارع قائلا :
من يريد الزواج ، زوجناه
من يريد ان نبني له بيتا ،بنيناه له
من عليه دين قضيناه له
من يريد ان يؤدي العمرة او الحج اخذناه
ذلك عندما احضروا اموال الزكاة للخليفة فقال
انفقوها على الفقراء
فقالوا لم يعد في امتنا فقير واحد
قال جهزوا بها الجيوش
قالوا جيوشنا تجوب الدنيا
قال زوجوا بها الشباب
قالوا من يريد الزواج زوجناه وبقي مال
قال اقضوا الديون عن المدينين
قالوا قضيناها وبقي مال
قال انظروا الى المسيحيين واليهود من كان عليه دين فسددوا عنه
قالوا فعلنا وزاد مال
قال اعطوا اهل العلم فأعطوهم وبقي مال
قال شقوا الطرقات
قالوا فعلنا وزاد مال
قال اشتروا قمحا وانثروه على رؤوس الجبال حتى لا يقال جاع طير في بلادنا
كانت الدولة تمتد من المحيط الاطلسي الى الصين ولم يكن بها فقير واحد .
كنا أمة عظيمة واليوم يقتل بعضنا بعضا لاتباعنا رغبات المستعمرين ....
لكن في الوقت الحاضر بدأت في العالم ثلاث أزمات مترابطة تعد من بين الابعاد الرئيسية لعصر الاضطراب العالمي الذي نعيشه هذه الايام ،ازمة الديموقراطية وانهيار العولمة وصعود ظاهرة الارهاب العالمي.
أما في عالمنا العربي فان أزمة الديموقراطية متواجدة بسبب هيمنة النظم الشمولية والسلطوية على مجمل الفضاء السياسي ،بحيث أصبح صوت الجماهير مقموعا او بعبارة اخرى يساق سوقا لصناديق الاقتراع التي كانت تتم عادة في سياق التزوير السياسي الشامل لإرادة الشعوب.
مما ادى في النهاية لقيام ثورات الربيع العربي والتي كانت مجرد انتفاضات ثورية اخذت شكل الثورات لكنها لم تكن كذلك ،لافتقارها الى قيادات سياسية واعية ورؤى ديموقراطية للمستقبل.
وأخيرا يجب ان نعمل بالتفكير المنهجي للوصول الى حلول ناجعة لمحاربة الارهاب وترسيخ الديموقراطية والسماح للشعوب بالتعبير عن رأيها واخذ حقوقها بكل عدالة ومساواة بين الجميع.
dr.sami.alrashid@gmail.com