بين مخاوف كبيرة وامال صغيرة ,ُيطرح اليوم بقوة سؤال العراق في سياق سيناريوهات ما بعد الموصل وداعش,باعتبار هزيمة داعش وتحرير الموصول احدى المحطات الاكثر اهمية في تحديد مستقبل العراق السياسي ,حيث انشغلت اوساط سياسية وخلايا تفكيراستراتيجي ومراكز دراسات غربية, واوساط اقليمية ووطنية عراقية , حتى قبل بدء معارك الموصل, بمحاولة اشتقاق اجابات لسؤال العراق الجديد .ورغم تعدد مخرجات رؤاها جميعا , الا انها كانت تلتقي عند قاسم مشترك يقول : ان السيناريو الارجح هو تقسيم العراق, في اطار ثلاثة اقاليم (كردي ,شيعي وسني ) وهو المشروع المطروح ,منذ سنوات من قبل نائب الرئيس الامريكي الاسبق بايدن ,اولامركزية ومع كليهما حكومة مركزية في بغداد, فيما لم يُطرح وحدة الدولة العراقية كحل مستقبلي لا على مستوى الخارج ولا الداخل, وقد اكد العراقيون ان التقسيم خيارهم المستقبلي ,ففي الوقت الذي استبق فيه الاكراد تحرير الموصل باعلان اجراء استفتاء على استقلال اقليم كردستان في اواخر ايلول القادم ,من المقرر ان يشمل مناطق متنازع عليها في كركوك وشرق الموصل ,وهو ما قوبل بين الرفض والتحفظ من قبل سنة العراق وشيعته ومن ايران وتركيا ,تتجه نوايا الشيعة والسنة لعقد مؤتمرات وطنية شاملة منفصلة في بغداد, عنوانها بحث مستقبل العراق ,وحقيقتها تثبيت الانفصال وتعزيز مكاسب كل طرف , فيما يمكن وصفه بالتركة المفترضة لداعش.
وبعيدا عن سياقات الرومانسية السياسية, فكل المعطيات تشير الى هناك فعليا ثلاثة كيانات تشكل بمجموعها ما يمكن ان يوصف بمفاهيم السياسية الدولية الحديثة دولة فاشلة في العراق التاريخي , وجميعها كيانات لا تشكل بمفردها , ولا بمجموعها دولة, تم التاسيس لها منذ احتلال العراق عام 2003 في اطار محاصصة, انتجت امريكيا على غرار المحاصصة اللبنانية , ضمنت للاكراد منصب رئيس الجمهورية وللشيعة رئاسة الحكومة وللسنة رئاسة البرلمان , ففي الشمال شكل الاكراد نواة دويلة بجيش “البشمركة” وفي بغداد والجنوب دويلة الشيعة بجيشين ,احدهما الجيش الوطني للدولة العراقية وبموازاته الحشد الشعبي الشيعي , الذي انشيء بفتوى من المرجع الديني السيد علي السيستاني , فيما دويلة السنة بوسط وغرب العراق, وهي الدويلة “المتمردة” بجيش يُعرف بالمقاومة العراقية و”داعش لاحقا”,وغير المعروف مدى قبول او رفض السنة لهذا الجيش, لكنه على الاقل شكل درعا للدفاع عن غالبيتهم ,وان كانوا يرفضون الاعتراف انه يمثلهم.
هذه المقاربة الموجزة في تفكيك المشهد العراقي ما قبل الموصل,يقدم معطيات ترتقي الى ان تكون حقائق لسيناريو ما بعد الموصل, اذ ورغم هزيمة داعش والقضاء عليها ,واعلان مقتل البغدادي او اختفائه (لن يغير كثيرا موته او اختفاؤه), الا ان الركون لاصدار احكام بانه تم القضاء على الارهاب في العراق تبدو قراءة غير واقعية , تحاكي مخرجات مضامين خطابات القيادات السياسية العراقية ,كردية وشيعية وسنية حول الوحدة الوطنية والاصلاح والدولة الحديثة والديمقراطية والتمسك بوحدة العراق,صحيح ان هناك اسبابا اخرى اسهمت بظهور داعش في العراق من بينها نظرية المؤامرة التي تعززت بعدم وجود اثار لداعش المندحرة, الا ان انسداد الافق السياسي وترسيخ اتجاهات الصراع بين المكونات العراقية على اسس مذهبية , كان السبب الابرز وراء ظهور داعش, وبدون تسوية سياسية حقيقية ستبقى هناك ارضية مناسبة للارهاب, تعيد انتاجه وتجعل امكانية القضاء عليه مجرد وهم , حتى وان تحققت انتصارات موسمية هنا وهناك ,واعلانات بمقتل امراء من داعش وغيرها كل يوم.
ورغم محاولات رئيس الحكومة العراقية , قيادة معركة الموصل, بمؤسسات الدولة العراقية ,جيشا واجهزة امنية ودعم دولي من الحلفاء الدوليين بقيادة الولايات المتحدة , وابعاد الحشد الشعبي, المتهم بارتكاب جرائم حرب , في عمليات تحرير الانبار والرمادي وصلاح الدين ومناطق اخرى, وحرمان قائد الحرس الثوري الايراني من الوقوف على انقاض مسجد النوري الذي اعلنت منه الخلافة ,الا ان رسالة معركة الموصل بان هناك دولة عراقية كان قد فات اوانها قبل بدء معارك الموصل , عززتها صور دمارمدينة الموصل , وحوالي مليون لاجئ من الموصل غالبيتهم من السنة ,وتقارير منظمات حقوقية دولية حول جرائم حرب وعقوبات جماعية واساليب وحشية تضاهي اساليب داعش.
من الواضح ان امريكا لاتملك استراتيجية جديدة بالكامل تجاه العراق, باستثناء التقسيم سواءا اقاليم او لامركزية , مع حكومة مركزية في بغداد, وهو ما يعني استمرار ادارة الازمة وليس حلها,,لكن ربما الجديد هو رفض التحالف الامريكي السعودي الجديد لاستمرار الهيمنة الايرانية على العراقوالتحذير باجراءات تصعيدية ضد ايران, في الوقت الذي تعتبر فيه ايران العراق عمقا استراتيجيا لها , لدرجة انها يمكن ان تقدم تنازلات في ملفات تحالفها مع حماس والجهاد الاسلامي او تقبل باجراءات تسوية مع حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن وفي ساحات اخرى , الا ان العراق سيبقى خطا احمرا في العقيدة الايرانية, كما ان هناك متغيرا جديدا في مستقبل العراق, حيث اصبح مرتبطا ارتباطا وثيقا بمستقبل سوريا الجديدة , في ظل واقع جيوسياسي فرضه تدخل ايران وداعش في سوريا , وربما سيكون مطروحا وفق المحاصصة والفدرلة ,باعتبارها الحل الامثل غربيا ,المساومة على نظام الرئيس الاسد باعتباره يمثل اقلية علوية تحكم اغلبية سنية في سوريا , وان يكون حكم العراق بين الاكراد والسنة, وربما هذا ما يفسر اصرار ايران الدائم على تغيير التركيبة الديمغرافية في سوريا والعراق, وفي الوقت الذي يشكل فيه خيار التقسيم بالنسبة لامريكا خيارا واقعيا , وليس مثاليا , من المؤكد ان ايران وتركيا وربما السعودية كاطراف اقليمية فاعلة بالملف العراقي سترفض هذا الخيار وتقاومه ,لاسباب مرتبطه بمخاوفها من انتقال عدوى التقسيم اليها, فيما يُرجح ان تؤيد القيادة الروسية التقسيم في اطار صفقة تضمن بموجبها تحقيق مكاسب بالاعتراف باستقلال اقاليم تتبع للفدرالية الروسية متنازع عليها في القرم باوكرانيا وابخازيا في جورجيا وغيرها في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة, خاصة اذا ما ضمن لها التقسيم في سوريا الاحتفاظ بمكاسبها وتوسيعها,اما الموقف الاوروبي بمجمله فستكون مواقفه في اطار قانون الوحدة والصراع مع امريكا وروسيا.
ورغم ان المعيار الدولي هو الاكثر حسما في تحديد مستقبل العراق ,من بين عوامل عديدة , في ظل علاقات دولية ومصالح متشابكة ومعقدة, الا انها لا تجد موطيء قدم لها على ارض العراق الا من خلال ابناء العراق ومكوناته , واذا كان مفهوما استحالة اعادة وحدة العراق لما كان عليه قبل عام 2003, الا انه ليس مستحيلا ان يبقى موحدا , في دولة مدنية حديثة لا تكون مرجعيتها مكة ولا قم, وربما اتخاذ قرار بحل الحشد الشعبي ,الذي انتفت مبررات تشكيله واية تشكيلات عسكرية وشبه عسكرية اخرى , سترسل رسالة لكل العراقيين ان هناك عراقا جديدا يتم بناؤه.
oaalraddad@gmail.com
رأي اليوم