أسلوب التربية الخاطئ المشحون بالخوف والرعب من الحياة، استقر ذلك في وجدان الطفل، ونما معه عبر سنوات عمره.. «الموت».. هذه المفردة باتت تطارد الفتى كالشبح في اليقظة والنوم في الحل والترحال، تناهى إلى مسمعه موت شاب من جيله هكذا دون سبب، انهار من وقع الخبر عليه كوقوع الصاعقة، وأخذ يبحث عن سبب شاب يموت فجأة دون مرض!
هرول للأطباء يسألهم عن السبب وراء موت الصغار والشباب دون مرض واضح، وهو يلحّ على الأطباء في الأثناء بإجراء ما يلزم من الفحوصات الطبية الضرورية وغيرها، كي يطمئن على حاله.. موت الشاب الصغير أذهله. كان صديقاً له ويقطن في الحارة نفسها، انتابته حالة من الفزع الشديد، أثّر موت صديقه بغتة، عرضته أسرته على أطباء كثيرين، قال أحدهم: «ولدكم مصاب بالرعب، وهذه حالة نفسية وعصبية، سببها صدمة نفسية، لا بد من العلاج والجلسات المنتظمة». وقال آخر؛ وهو طبيب عام: «أسلوب التربية له دور في هذا الرعب الذي يسكن هذا الفتى». وقال ثالث؛ وهو طبيب أسرة واجتماع: «هذا الفتى يعاني من الانطواء والخوف الاجتماعي، وحساسيته مرهفة ورقيق، وهذا الصفة قادرة على التأثير المباشر والخطير على نفسية الفتى وسلوكه، لا سيما في مجتمع لا يحترم المشاعر والعواطف».
عاد الفتى ووالده إلى البيت دون أن يتخذا قرارا وتنفيذ ما قاله الأطباء..
كوابيس مخيفة غدت ترعب الفتى حين يأوي إلى النوم، يرى أشباحا تطارده غريبة الأشكال ترتعد فرائصه، يحاول الهروب من أمامها، شيء يمسمره في مكانه، كأن رجليه منزرعتان في الأرض، يحاول الصراخ بأعلى صوته، لا يخرج الصوت، يحاول تحريك يديه لعله يصحو من كابوسه العميق، فجأة يخرج صوته شاقّاً فضاء صمت المكان، يصحو من جنونه المفزع الكابوسي، يردد: «الحمد لله» ثلاثاً، يتعوذ من الشيطان، فيما جسده يتصبب عرقا وهو بالكاد يبلع ريقه من الخوف والجفاف.
منذ تلك اللحظة أضحى يخشى النوم ويكرهه، انتابته حالة من القلق الشديد على صحته وأحواله النفسية، تراجع تحصيله العلمي في المرحلة الإعدادية، وتراجعت صحته، بات يحجم عن الطعام والشراب.
وذات يوم فيما كان يقف في باب منزله، مرت من أمامه تلك الفتاة، تأملها حتى اختفت عن ناظريه، فتاة ذات ستة عشر ربيعا، طويلة القامة نسبيا، ذات وجه بيضاوي وضاح، وشعر أسود، أربكته الفتاة، وأخذ يشغل جزءاً من دماغه فيها, في اليوم التالي شاهدها في دكان الحارة المتواضع، ارتبك أمامها، نظرت نحوه نظرة على استيحاء، حاول جمع أطراف شجاعته المتبقية كي يسألها أي سؤال عابر ليلفت انتباهها إليه، ولكنه لم يستطع، فصاحب البقالة يعرف والده وخشي من تسريب الخبر.
حاول اللحاق بها في الشارع العام، انتبهت لوقع أقدامه خلفها، تشاغلت بأشياء كانت بيدها، افتعلت حركة ما، أسقطت شيئا من يدها على الأرض، وبسرعة التقط ما وقع منها، ناولها إياه، شكرته، سارا معا لكن بخوف وارتباك، تجاذبا أطراف الحديث، أعطته قصاصة عليها رقم هاتفها، بات مشغولا وعاشقا ينتظر هاتفها وتنتظر مهاتفة منه.
شيئا فشيئا أمسى لا يبالي فيمن يموت من حوله، هاجس الرعب بدأ يذوب من حياته. الفتاة سكنت روحه وقلبه ومشاعره، ينام على طيفها ويصحو كذلك، وأصبح لا يرى كوابيس ولا يخشى موتا!