استفاض حديث الكائنات الفضائية استفاضة واسعة في خمسينيات القرن العشرين، وتكاثرت الروايات عن «صحون طائرة» تهبط او تُقلع في هذه الولاية او تلك من الولايات الاميركية او على الحدود الكندية او المكسيكية، ثم بدأت تصدر روايات وكتب عن أولئك «الذين هبطوا من السماء» وصار ذلك كله مثاراً لخيال السينمائيين وبدأت سلاسل من أفلام غزو الفضاء تملأ دور العرض وشاشات التلفزيون، وأخذت تظهر أبحاث عن إمكان وجود حياة ومدنيات في الكون، وامتزجت الروح العلمية في ذلك بالنزعة الأُسطورية، وتراحبت للآداب والفنون من ذلك آفاق وآفاق.
* * * *
نستذكر هنا ما جاء في التفسير الكبير للفخر الرازي عن «العوالم الممكنة». كما نستذكر ما جاء في كتاب «الإمام الغزالي»: «جواهر القرآن» عن تلك «الأرض البيضاء» المخلوقة لله، التي مسيرة يومها كثلاثين يوماً من أيامنا، والتي لا يعلم قُطّانها «بخلق آدم ولا بأن الله يعصى في الأرض».
كما نستذكر بعضاً مما تحمله لنا الانباء من اكتشاف كوكب او اكثر في زوايا الكون البعيدة يصلح للحياة ولان تقوم فيه حضارة على نحو أو آخر.
بيد ان كل ذلك لا يخرج عن دائرة الاماني والظنون وهو إن صلح لقفزات الخيال لا يصلح لمواطن اليقين بحال، وعدم الوصول به الى مستقر يطمئن العقل اليه دليل على استيلاء النقص على البشر وعلى رجوع ابصارهم واذهانهم حسيرة عن حقائق الكون الذي لا يعرفون له حدّاً، وعن آيات الله المبثوثة فيه، إلاّ ان يأتيهم من لدن خالقهم العظيم سبحانه وحيّ منزل يطمئنون اليه اطمئنانهم الى السُّنن والقواعد الفاعلة في وجودهم وفي سائر الكائنات.
* * * *
على ان من شأن النظر في ملكوت السماوات والارض ان ينتهي بالعقل الانساني الى ضرورة استشعار ذلك «التواضع المحمود» الذي قد ينكّبُ عنه حُمّى اغتراره بالقليل مما يعرفه عن نفسه، وعن العالم القريب الذي يتقلّبُ فيه، وعن العوالم الممكنة في مفاوز الكون وارجاء السماوات.
* * * *
وإذا نحن انتقلنا من هذا الافق العَلِيّ والسّمْتِ البهيّ الى حياتنا الثقافية وما يملأُ أُفقها الرمادي من بالونات منفوخة او صحون طائرة يختلقها الوهم والجهالات فإن مطلب «التواضع المحمود» يكون أكثر وجوباً وأشدّ إلحاحاً، ولا سيما في مواجهة «الصغار المُتنفجين» او «الخشب المسندة» التي يحسبون كل صيحة عليهم، وهم كُثر متفاقمون متورّمون مأزومون.. ألا ساءَ ما يزِرون.