اقليمنا الذي تَخَلّق الإرهابُ الحديث في تربته، لم تجرِ عليه عملية مسح واستبيان، تكشف لنا حجمَ الضرر والعطب الذي الحقه المُغرِرون والمُضلِلون بشبابنا. وكذلك لم تجر هذه المسوح اردنيا.
ولا نعرف على وجه الدقة والتحديد كيف يفكر أولئك الذين ضَللوا وغَرروا وجَنّدوا، وكيف يفكر أولئك الذين تم تجنيدهم والتغرير بهم ولم يُمَكَّنوا من الالتحاق بالجماعات الإرهابية في الخارج، ونسميهم اليوم الخلايا النائمة والكامنة والذئاب-الضباع المتوحشة المنفردة.
نحن امام خطر نوعي، كابدنا نيرانه واضراره، لكننا لا نعرف حجمه ولا عمقة ولا غوره. فكيف نتصدى لخطر لا نعرفه على وجه التحديد؟ وكيف نقاومه وكيف نوقفه وكيف نحسره، تمهيدا لإبطال مفعوله ولوقف تفشيه في أوساط أبنائنا، الذين انطلى وتنطلي عليهم، الدعوة الى القتل والانتحار.
مؤشرات وبينات هذا الاختراق الخطير لمجتمعنا، وفيرة وكثيرة. والضعف المرعب في مواجهة الإرهاب - الذي اعتقد انه لن يتكرر- كما في مأساة المواجهة في قلعة الكرك، ستظل ماثلة امام اعيننا الى عقود مقبلة.
40% من العاطلين عن العمل هم من الخريجين الجامعيين! و كل أبنائنا وبناتنا العاطلين عن العمل، تمور في اعماقهم، وتكمن في اشواقهم، الآمالُ العِراض والاحلامُ اللذيذة المشروعة بوظيفة وزوج وشقة وولي عهد او سنيورة عذبة.
ننتظر منذ سنوات «الاستراتيجية الوطنية لمكافحة التطرف والغلو والإرهاب» دون دخان ابيض او أسود. والذي نعرفه ونسمعه هو: صمت وغموض وتكتم، ورمي جمرتها من كف الى كف ومن وزارة الى وزارة !!
و»اللي بده يعمل عجّة بدو يكسر بيض».
الذي اخشاه انه لا يتم توفير المخصصات المالية اللازمة لـ»خطة مكافحة الإرهاب» إعلاميا وثقافيا وعقائديا وتربويا، في حين تتوافر المخصصات المالية - مثلا- لدعم شركة الخطوط الملكية الأردنية - عالية بمئات ملايين الدنانير!!
لم نحدد حجم المشكلة-البلاء، بعد.
ولذلك من الطبيعي اننا لم نرسم معالم حركتنا ولا خريطة طريقنا ولم نرصد المخصصات المالية لمواجهة المشكلة-البلاء القابل للانفجار في اسواقنا واعراسنا وتجمعاتنا.
فما بعد داعش المرئية واخواتها، توجد داعشُ السرية واخواتها.
لقد نجحت قواتُنا المسلحة ومخابراتُنا واستخباراتُنا، خلال السنوات الست الماضية، نجاحا مجيدا ممتازا، في مواجهة العدو الخارجي ودرء اخطاره ونيرانه بكفاءة نعتز ونفتخر بها ونحمد الله عليها.
وستظل مشكلتنا الداخلية مع دواعش الداخل، الفاسدين الذين يلِغون في دمنا ومقدراتنا وصحتنا وغذائنا بلا هوادة او رحمة او شبع، كما هي مع الارهابيين المُغرر بهم، الذين يكفروننا ويتحينون الفرص، ليَلغوا في أمننا واعراضنا وينتظرون ان يجزوا رقابنا ويسبوا حرائرنا ويغنموننا أسلابا.
دواعش الداخل المُغرِرون، مبثوثون في العديد من مفاصلنا: في فضائيات التكسب والاثارة وفي الإذاعات والمقالات والندوات والمحاضرات والخطب والدروس ومنصات التواصل الاجتماعي.
دواعش الداخل هم مروجو الخرافة والتخلف. المحرضون وموزعو الخزعبلات. الاحاديون دعاة الكراهية. المتاجرون بالدين الذين يوزعون -في القرن الواحد والعشرين- صكوك الكفر والموت والغفران. دعاة الانكفاء المستعلون على الأمم الأخرى استنادا الى الابداعات التي حققها الإسلام، وهم متغافلون عن ان ذلك الاسهام الجليل تم عندما انفتح الإسلام العظيم على الحضارات والأمم فأخذ منها واعطاها فاغتنى منها واغناها.
القدرات الوطنية لمكافحة الإرهاب متوفرة بكثرة في وطننا. لم تُغَطِّ عليها الفوضى والخرابُ والتطفلُ الذي ضرب في العقد الأخير، قطاعي الاعلام والثقافة، حين تدفقت ضحالة كثيفة الى هذين الحقلين الوطنيين، اللذين يماثلان في الأهمية ويوازنان في التأثير، الجيش والمخابرات والقضاء ومجلس الامة والصحة والزراعة والصناعة والامن العام والبحث الجنائي والدرك والهيئة المستقلة للانتخاب.
فلتَعجِم بلدُنا رماحَها، لتجد ان الكتاب والصحافيين والإعلاميين المحترفين المحترمين، وهم كثر، هم اصلبها عودا واعصاها كسرا. هذه هي الكوكبة التي تخوض الامة بها حربها الثقافية الإعلامية ضد التطرف والغلو والإرهاب، هذه هي الكوكبة الوطنية التي لولا وقفتها واسهاماتها الجليلة، من اجل الدولة المدنية وسيادة القانون والوحدة الوطنية والعدالة الاجتماعية والحق والخير ومكافحة الفساد، على امتداد عقود من العطاء والصبر والفقر والعوز، لكان التهتك فظيعا.
ما بعد داعش واخواتها، دواعش، لا مجال لترف الانتظار من اجل المواجهة الثقافية الإعلامية العقائدية التربوية معها، في ميدان هو الصحافة والاعلام بكل تنويعاتها، شريطة ان تنخرط فيها كل القوى السياسية والاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني الوطنية، دون استثناء او إقصاء.
الدستور