• النقل الجماعي .. الروح الجماعية .
لا تمل هذه المذيعة ولا تكل من تكرار هذه العبارة مثل إسطوانة دوارة .. « أخي المواطن .. إن إستخدامك لوسائط النقل الجماعي يعزز الروح الجماعية ويوفر إستهلاك الوقود ويخفف من أزمة السير ويوصلك بآمان الى مقصدك ... « أوف , قلها الموظف في وزارة ما أبو فهمي , قبل أن يضغط زر إغلاق الراديو , فلم يصبر ليسمع ما تبقى من الإرشادات , وبعد تفكير يتخلله تأمل في الغرفة المضغوطة , مصحوبا بنفث كمية كبيرة من دخان سيجارة هي الأخيرة , بينما تتكفل مروحة ثبتت على طرف طاولة في زاوية الغرفة بتوجيه الدخان يمينا ويسارا بحسب دورانها الدخان وقال حسنا سأجرب , وحتى يقاوم إغراء السيارة قذف بمفاتيحها بعيدا في مكان لا يتذكره ونهض مبكرا , وقذف بجسده الى الطريق ومشى بضع خطوات و وقال أين هي وسيطة النقل الجماعي التي هلكتنا بها تلك المذيعة .. دقائق حتى وصل الى دوار الداخلية مقابل محافظة العاصمة .. ميدان جمال عبدالناصر , وقف ينتظر وسيطة النقل العام , وهناك بالقرب من الدوار وأسفل الجسر توقفت باصات عديدة , إسمها «الكوستر» بالمناسبة سر تسمية هذه الباصات بهذا الإسم لمن لا يعرف هو « تويوتا كوستر احد طرازات الحافلات الصغيرة وتتسع الى 21 راكباً يخصص لملئ الأجواء بعوادم الديزل .
توقف هذا الكوستر وتدلى من بابه شاب ينتعل «زنوبة» ولمن لا يعرف ما هي الزنوبة سنفسرها له « زنوبة أو طَقْطَقِيَّة أو صندل الأصبع، هي نوع من الصنادل الصيفية الخفيفة ذات القدم المكشوفة، ولقد سمّيت طقطقيّة لأنها تُحدِث طقطقة جرّاء الصّفع المتواصل لباطن القدم أثناء المشي، .
على كل حال تدلى هذا الشاب وبدأ يصيح .. صويلح الجامعة , المحكمة .و آخر راكب .. وألقى بقدمية على الشارع ممسكا باب الكوستر ,, هذا الشاب إسمه كنترول الباص ولمن لا يعرف ما هو كنترول الباص و سنعلمه عبر هذا التعريف « يعرف في الأفلام المصرية بالكومسري , أما في الأردن فيعرف بالكنترول أي المنظم ومن مهامه .
• جمع الاجرة من الركاب .
• التنسيق ما بين الركاب والسائق للوقوف والنزول.
• ترتيب الركاب في مقاعدهم .
• النداء على ركاب الخط .
• إغلاق الباب بعد صعود او نزول الركاب .
• التدخين والحملقة بالركاب.
إستجاب أبو فهمي لنداء الكنترول ووضع قدمه اليمنى على طرف سلم الكوستر , وبحركة إضافية أصبح بكل جسده داخل الباص وفوق أول مقعد فرد جسده وإعتدل , قبل أن يعالجة الكنترول بطلب الأجرة , ويسأله « لوين إن شاء الله ؟» .. فأجاب .. هون عند وزارة الزراعة .
في هذا الحر الشديد تحول الكوستر الى علبة تصدح بأغاني تستهوي السائق ولا يرى فيها الكونترول مانعا أما بالنسبة للركاب فلا علاقة لهم بخصوصيات كليهما والذوق مفروض على الجميع شاء من شاء وأبى من أبى , طبعا الدخان مسموح , الكوستر المجنون يعج بالضباب , والركاب مصففون فوق المقاعد الواحد والعشرين ولا بأس من عشرة أخرين وقوفا , الكوستر المجنون يسابق الريح ويتجاوز , والسائق يتلذذ في شتم هذا وذاك وسيجارة في إثر أخرى ومصير كل ذلك الطريق العام وهذا يبصق وذاك يسعل , أما مصيبة المصائب إن جاءك الحظ بالرفيق الذي لا تنتظره للمقعد , إن كان ملييء الجسد مثلا فهو يحشرك الى الشباك أما إن فعل الحر فعله في جسده ليستفز غدة التعرق فيا سلام , عندما تهب عليك الروائح المختلطة بروائح الدخان والأنفاس الملوءة ببقايا وجبة نصفها من الثوم والبصل .
كل ذلك ليس مهما , المهم الوصول بالموعد ومن دون أزمة وبسلام , حتى بعد خوض سباق في مارثون , فهذا الكوستر إن لم يجد من يسابقه فهو يسابق نفسه , وبالنسبة له أن علق بالأزمة فهو منتهى أمله خصوصا إن كانت المرآة مسلطة على وجه فتاة تجلي خلف مقعده مباشرة , أو أنه شعر بالغيظ من راكب مستعجل فأراد أن يعاقبه بالتأخير.
وصل أبو فهمي الى مقصده , ثمة تقليد عليك أن تتبعه إن أردت النزول , فأنت إما أن تصيح بأعلى صوتك « هون بالله عليك نازل» أو تضرب بكف يدك على زجاج الباص , فيعلم الكنترول برغبتك ويمررها للسائق , الذي يقول هون نازل , ويا ويلك إن كان في إثره باص منافس يخشى أن يسبقه لخطف الركاب من الطريق قبله , فبعد أن يتذمر السائق ويتبرم , يقول , إنزل لكن بسرعة , ولأن الباص لم يقف وقوفا كاملا وهو لن يفعل يطل إليك الكنترول أن تقفز بينما الباص يبطيء قليلا من سرعته , فينصحك الكونتروك « المنظم « بأن تقفز ووجهك للأمام حتى لا تنقلب على وجهك وأن توازن بين خطواتك وبين سرعة عجلات الباص حتى يقذفك هرولة الى الأمام .
وصلت أخيرا يا أبو فهمي , لكنك ندمت على هذه المغامرة ولعنت اللحظة التي ألقيت بها مفتاح سيارتك بعيدا , فأن تعلق بالأزمة في سيارتك أقل سوءا من أن تعشها بروح جماعية في داخل علبة متحركة إسمها الكوستر .
عاد الموظف في وزارة غير بعيدة الى منزله والى ذات الغرفة المضغوطة , وغايته أن يستمع مرة أخرى لصوت المذيعة وهو يتدفق بإرشادات النقل الجماعي والروح الجماعية , فقط ليلعن كذبها وتضليلها و لكن في هذه المرة كانت المذيعة تكمل ما تبقى من إرشادات فات أبو فهمي أن يستمع اليها , « أخي المواطن , .. أخي المواطن , هناك ملاحظات يجب أن تأخذها بعين الإعتبار عند إستخدامك للنقل الجماعي , أولا , عليك أن تخرج لإنتظار الباص قبل ساعة على الأقل , ثانيا عليك أن تحتاط لفكة من النقود فغاليا لا يتوفر الكونترول على فكة يعيد لك بها ما تبقى من مال , ثالثا , عليك أن تحتاط بكمامة , على سبيل الإحتياط من الدخان أو الروائح الأخرى , رابعا لا تنتعل حذاء وننصحك أن تنتعل بوط خفيف يؤهلك للقفز من الباص إن طلب إليك ذلك .خامسا , لا يتحمل السائق مسؤولية الوقت الذي تستغرقه الرحلة في وسط الأزمة , سادسا , الباص لا يتقيد بمسرب خاص وعليك أن تشعره بمكان محطتك الأخيرة قبل ربع ساعة على الأقل من الوصول اليها , سابعا , الكنترول غير مسؤول عن المشاحنات في داخل الباص , كما أنه غير ملم بالجغرافيا ولا بالأسماء الرسمية للمواقع وعليك أن تحفظ الأمكنة حسب ما يعرفها هو , ثامنا , لا تعيدها !!.
الرأي