السؤال الذي يروق للملايين هذه الأيام، وينتشر كالبرق في فضاء التواصل الاجتماعي، ويتلقفه كل من أقسم وراهن منذ البداية على أن ما جرى ويجري في العراق وسوريا على أيدي "الهمج" ليس إلا مسرحية، أو فصول من مؤامرة تستهدف الإسلام، و"الإسلام السني" بالذات، على اعتبار أن المؤامرة "أمريكية غربية إيرانية صفوية".
وهنا بالذات يجري تعطيل العقل عمدا، فيتم التغاضي عن كل المعطيات على الأرض، إذ لا أحد يريد أن يصدق بان كل هذا الشر خرج من بطون الكتب التي شكلت جزءا أصيلا من ثقافة تربينا عليها ودرسناها في المدارس والجامعات، وتشرّبناها في المساجد ودور العبادة والمراكز المدعومة من تيارات الإسلام السياسي، ذلك ان تعطيل العقل مرض مزمن، صار مع الزمن عضالا، حصل ذلك حين تنازلنا عن العقل طوعا لمصلحة الخرافات والأكاذيب، فتعطل باب الاجتهاد على سبيل المثال، مع أنه أصل شرعي من أصول الدين، ومصدر للتشريع، حتى بتنا عاجزين عن فهم متغيرات الكون وعن الإجابة عن أسئلة تطرحها الحداثة، على شكلة: لماذا يتقدمون ونحن نتأخر؟.
لا يا سيدي، ليست مسرحية، وليست مؤامرة، بل مرض أنت مصاب به، يجعلك مفصوما وتائها بين ما هو عاطفي وعقلاني، تستسلم للأسهل حتى لا تضطر إلى مواجهة أسئلة كبرى تتدحرج في دماغك، وبذلك تفسر عجزك في التنمية، وعجزك في السياسة، وعجزك في الاقتصاد، وعجزك حتى في إدارة شؤون بيتك. دون أن تقف ولو للحظة لتسأل نفسك: إذا كان الغرب والشرق كله متآمر على "الأمة"، فما دور هذه الأمة وماذا فعلت حتى لا تبقى صيدا سهلا للمتآمرين ؟.
وما هذا المقدار من السذاجة الذي يجعلها تقيم قرونا في هذا البؤس، لتظل المؤامرات تنطلي عليها باستمرار!.
أين اختفى الدواعش؟ لماذا لم نراهم أسرى او قتلى؟ الإجابة عن ذلك يعيدنا قليلا إلى الوراء، وتحديدا في العام 2014.
لنسأل: لماذا تمكن تنظيم داعش أصلا من السيطرة بسهولة على الرمادي والموصل وصلاح الدين والفلوجة وسائر المحافظات والمدن السنيَّة العراقية، بينما وقف عاجزا عن الاقتراب من كربلاء والنجف والكاظميَّة ؟
السؤال ذاته بكل ما ينطوي عليه من مرارة لدى من لا يزالون يؤمنون بالأوطان، يتكرر في سوريا: لماذا سيطر التنظيم بسهولة على حمص وحماة وحلب والرقة ودرعا، واحياء من دمشق، بينما استعصى عليه الساحل أو المناطق التي سماها بشار الأسد يوما "سوريا المفيدة"؟
الجواب بسهوله هو أن داعش لا ينمو ولا يكبر إلا بوجود "المرحبين". ولو تمكن من تلك المدن لاحتلها ولأعمل في أهلها القتل والتشريد.
وحين يعثر على صيد سهل في المناطق "غير السنية" على نحو ما حصل في شمال العراق وبعض القرى المسيحيَّة واليزيديَّة، فإنه لا يتردد في إظهار أبشع ما لديه من وسائل القتل والتعذيب والتنكيل والسبي والحرق وحز الرؤوس.
السر إذن في الحواضن، وهذا ما يتجاهله عمدا غالبية المحللين ذوي الهوى، وأقل الهوى أن تدرأ الإرهاب عن تراثك الذي تحب وتقدس، لكن أكثره يخفي أجندات طائفية شديدة التطرف.
صحيح أن الجيش العراقي أصبح متخما بالأيديولوجيات والتعصّب المذهبي، وغالبية عناصره نشأوا في ظل الاستقطاب الطائفي الحاد، مع حضور قوي للمشروع الإيراني الطائفي، إلا أن ذلك وحده لم يكن ليبرر هذا السقوط المدوي لمدينة الموصل خلال ساعات في يونيو 2014، وهزيمة 4 فرق عسكرية عراقية أمام بضعة مئات من المسلحين لا يملكون غير أسلحة خفيفة، لو لم يكن هناك ما يمكن تسميته بـ "الاحتلال الاختياري"، وهنا أيضا لا يمكن تغييب التقارير التي تؤكد تواطؤ مسؤولين كبار في المحافظة مع المسلحين، ليس حبا في "الدواعش"، وبعضهم من غير المتدينين أصلا، بل كرها بنوري المالكي ورفضا للمشروع الإيراني في العراق.
والنتيجة أن عدد المسلحين زاد إلى 3000 وبعض التقارير تتحدث عن أكثر من ذلك العدد بكثير. وهي نتيجة طبيعية في ظل ذوبان التنظيم في الحواضن الشعبية، وتغلغله بين الناس، ونشوء علاقات مصاهرة ونسب بين الكثير من العائلات والمقاتلين المحليين والأجانب، فضلا عن تعمد داعش تجنيد الأطفال والفتيان قسرا في صفوفه.
بذات الطريقة التي تعملق فيها التنظيم المتوحش، هو يختفي الآن، فالحواضن التي استقبلته وجعلته ينمو ويكبر، هي ذاتها التي ستخفيه، وتساعده على الذوبان فيها. هذه هي الحقيقة بكل ما فيها من إيلام.
قتل منهم الكثير على مدى السنوات الماضية، والكثير من التقارير تحدثت بالأسماء عن قتلى للتنظيم ينتمون لدول عدة بينها الأردن، ونحن في الأردن نعرف بالاسم عائلات فقدت أبناء لها وهم يقاتلون في صفوف التنظيم.
كما تمكن كثيرون من الهرب إلى مدن أخرى والتحقوا بالمقاتلين في المناطق التي ما زالت تحت سيطرة التنظيم، وعاد آخرون إلى دولهم بصمت، إما ندما بعدما اكتشفوا حقيقة التنظيم الظلامية، أو بهدف زرع الموت في تلك الدول.
لهذا كله لن نرى الدواعش، أكواما من الجثث في شوارع الموصل وأحيائها المهدمة والمدمرة. لماذا؟
حدّق جيدا في نفسك، لا في الشاشات، وسترى الحقيقة، وإن كانت مؤلمة.