يوم 21/6/2017 وفي ليلة القدر، تم تدمير المنارة الحدباء في المسجد النوري في الموصل والتي يصل ارتفاعها إلى خمسة وخمسين مترا، وهي الجزء الوحيد من المسجد الباقي على بنائه الأصلي. وتم تدمير المسجد النوري وهو من أقدم مساجد العالم الإسلامي ،" بني عام 568ه " وهو واحد من سلسلة المساجد التي بناها القائد نور الدين زنكي وتحمل نفس الاسم " المسجد النوري" في الموصل وحلب وحماة إبان تحضيره لتحرير المنطقة من احتلال الفرنجة ، وسميت المنارة بهذا الاسم لميلانها ، ومن هذا المسجد أعلن أبو بكر البغدادي إقامة دولة الخلافة المزعومة ، وأعلن نفسه زورا وبهتانا خليفة للمسلمين ، وقد اختلفت الروايات في الجهة التي كانت وراء هذا الحادث الإجرامي ، فالحكومة العراقية تتهم داعش بأنها وراء العملية ، وهنالك جهات تتهم قوات الحشد الشعبي بأنهم من قاموا بهذا العمل وعلى أسس طائفية ذلك أن باني هذا المسجد نور الدين زنكي كان شديدا على الطائفة الشيعية .
وبعيدا عن التحقيق في الجهة التي تقف وراء هذا الأمر ، فإن هذا التفجير يدل على مقادر الجهل والتعصب الذي نعيشه اليوم ، وإلى الفكر المتخلف الذي لا يمت الى ديننا ولا إلى أي دين بصلة ، وقبلها قام الدواعش بهدم مسجد النبي يونس في الموصل أيضا الذي يقول المؤرخون أن مرقد نبي الله يونس بن متى فيه .وهدمه الدعشيون بحجة النهي عن بناء الأضرحة والمقامات التي تعبد من دون الله عز وجل .
في نفس الوقت ذكرني هذا الخبر بقصة حدثت عام 1940 حيث تصدعت المأذنة الحدباء في المسجد النوري في الموصل بفعل الزمن ، وكادت أن تسقط فما كان من محافظ الموصل حينها إلا أن استعان ببناء مسيحي مشهور اسمه "عبودي طنبورة جي "وطلب منه ترميم المأذنة ، وكان العمل خطيرا وفيه مجازفة كبيرة بسبب قلة الإمكانيات وارتفاع المأذنة.
لبى الطنبوري النداء وقام بالعمل على أتم وجه ، علما بأن العمل كان محفوفا بمخاطر كبيرة ، فلما انتهى من عمله تقدم إليه المحافظ وشكره على ما قام به ثم أراد أن يدفع له مالا مقابل ما عمل فاعتذر قائلا : هو هذا المكان لمن؟ اليس بيت الله ؟ قال المحافظ : نعم، فقال الطنبورة جي : إذن أنا وصاحب البيت نتفاهم فسوف يعطيني اكثر وأحسن .
أين اختفت هذه السماحة اليوم من عالمنا العربي والإسلامي ، اين غابت هذه الروح الكريمة الطيبة التي جعلت الناس يعيشون وحدة وتلاحما فريدا ، تجمعهم إنسانيتهم وأخوتهم ووطنيتهم وأديانهم ، لقد بدأت هذه الروح الطيبة تخفت وتذوي منذ بدايات السبعينيات من القرن الماضي ، وبدأت روح من التعصب والعدوانية الغريبة على ثقافتنا بل وعلى ديننا ، فلا دين سماوي يقبل هذه الروح الشريرة المتعصبة التي بدأت تغزو بلادنا وتفتك بوحدتنا لصالح أعداء الأمة .
هذا التعصب ليس على أساس الدين فقط بل على أسس قومية ودينية ومذهبية وطائفية ووطنية ومناطقية وعشائرية بل وجندرية ورياضية ، روح جعلت الواحد فينا لا يقبل الآخر بل يعد المخالف له في الدين أو الرأي أو المذهب أو الطائفة او العشيرة أو فريق كرة القدم عدوا بدلا عن العدو الحقيقي، اختفت روح السماحة وحلت روح التعصب والتطرف .
إن المطلوب من مؤسسات التوجيه والتربية أن تبادر إلى معالجة الخلل قبل أن تستعصي هذه الظاهرة على العلاج ، فمهمة وزارة التربية والتعليم ومناهجها الدراسية كبيرة خطيرة ، ودور وزارة الأوقاف والإفتاء وباقي المؤسسات الدينية ومنابر الوعظ والإرشاد فيها خطير ، فلا يصح أن نبقى نتناقش في حكم تعزية غير المسلم ورد السلام عليه ومعايدته ، وهنالك دور كبير على المؤسسات الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي أن تمارس الحرية الإعلامية بشكل مستنير ولا تستخدم هذه الوسائل في التحريض والتعصب .
إن العنف المجتمعي يضرب بلادنا، وكلمة واحدة ، وحادثة بسيطة كافية لتشعل شجارا عنيفا بين جيران عاشوا بمحبة ووئام عشرات لسنوات ، ومعارك طاحنة وحرقا لإطارات وإغلاقا لشوارع وتدميرا لبيوت وقتلا وترويعا لآمنين ونساء وأطفالا .
حالة تحتاج إلى تدارك قبل فوات الأوان ولات حين مندم.