ليس هناك ما يلفت الانتباه, في أداء مجلس النواب الاردني في عامه الاول, سوى دوره الفاعل وتأثيره العميق, على الحراك السياسي- الاجتماعي الساخن الذي شهدته البلاد خلال النصف الثاني من العام الحالي. وما دون ذلك, يقع في دائرة الرتابة والروتين.
مجلس النواب, شكّل في عامه الاول, اداة فاعلة ومؤثرة في توجيه وادارة "الحراك", وكان الميدان الارحب لتجليات وصراع الافكار والتوجهات والخيارات المستقبلية.
وبدا واضحا للعيان, ان صافرة انطلاق الحراك, ارتبطت بالاعلان عن تشكيل مجلس النواب الحالي, ولم يكن البيدر النيابي معزولا عن حسابات "المرحلة". فالكل زرع بأمل ان يحصد قوة ونفوذا. تنوع البذار والسماد, وحتى السماء استمطرت اصطناعيا. كل ذلك استعدادا لمواجهة قادمة بين مدرستين ونهجين في الحكم كانت كل الدلائل تؤشر على انها "حامية الوطيس"، وان مجلس النواب سيكون الاداة الافعل في المواجهة (الانتفاضة) وحصانها الرابح.
بغض النظر عن دقة التمثيل النيابي في المجلس وعدالة التوازنات المتشكلة داخله, وبغض النظر عن رأي النخب السياسية والعامة فيه, يظل مجلس النواب, المكان الذي تتكثف فيه التوازنات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتجلياتها.
وقد تحصنت فيه وخلفه, تيارات, حملت خيارات وتوجهات سياسية واقتصادية واجتماعية ناقدة للوجهة العامة للسياسات والخيارات النافذة, وكان مجلس النواب حصنها المنيع, ودرعها الفولاذي الواقي. ومظلة وحدت "الممانعة" على اختلافها وتعدد دوافع وحسابات مكوناتها. وتنوع البدائل والخلفيات التي يقدمونها للافكار والسياسات النافذة.
وقد ساعدت التركيبة الاجتماعية والسياسية المحافظة لمجلس النواب, الجافلة اساسا من فكرة التغيير, والمعارضة حكما للافكار والتوجهات لليبرالية الجديدة, على تمليك "الممانعة" اداة الحسم, فاندفعت بحماسة وعناد, وبدعم اعلامي ومجتمعي قوي خاصة من القاعدة الاجتماعية التقليدية للدولة ودخلت في مواجهة شاملة, مع "تيار" امتلك قوة ونفوذا اكبر بكثير من حجمه السياسي والاجتماعي، انتفخ وتضخم في ظل غياب القوى السياسية والاجتماعية البديلة, المؤهلة لحمل افكار الملك الاصلاحية.
فالإرادة الملكية المتعطشة للتغيير والتطوير والتحديث كانت تصطدم بجاهزية الدولة, وتتعثر بين يدي القوى التقليدية وطرائقها "الجامدة" في إدارة السياسات العامة، هذا اذا افترضنا حسن النية، التي لم تكن موجودة في كثير من الاحيان والاحوال حتى عند بعض رؤساء الوزارات.
ولأن الطبيعة لا تحب الفراع. كان الذي كان!
وجود تيار منتفخ ومتضخم، وبلا سند في البرلمان او في مؤسسات الدولة واجهزتها وبقاعدة اجتماعية ضيقة جدا، هي اقرب الى "الطائفة"، منها الى الشريحة الاجتماعية، كانت مثل "الدجاج المسحب"، بلا عظام تقف عليها، ولم تكن تستطيع التقدم من دون عكاكيز دائمة.
وبسبب هذه العزلة والغربة, وتماشيا مع المنهجية الفكرية التي تستند اليها هذه "الطائفة" بالنظر الى دور الدولة وشكلها ووظيفتها, فقد جرى استسهال تشكيل مطابخ فرعية بديلة خارج اسوار "الولاية العامة للحكومة" لتوليد المبادرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية, بمنأى عن الحكومة المركزية. مما ادى الى تقليص نفوذها وسلطتها الدستورية. وهز صورتها امام المجتمع, مما خلق حالة من الفزع داخل قطاعات واسعة من المجتمع والنخب خاصة.
وتشكلت حالة من اللايقين في المستقبل, وتنامت الشكوك في كل اتجاه وقرار او توجه، وصلت حد الخلاف على اللونين الابيض والاسود. وكان هناك من يعتبر استمرار "تسلط" هذه "الطائفة" وفرض نفسها وسياساتها على المجتمع والدولة, ما يهدد الامن الوطني والسلم الاجتماعي.
وقد تأثر مجلس النواب كثيرا, فيما كان يحدث خارج اسواره, وانعكس ذلك بقوة على ادائه وعلاقاته بالحكومة, ودخل في مناورات بالذخيرة الحية كانت حديث الناس, والإعلام, وتأثرت بذلك خارطة تحالفاته الداخلية وتركيبة لجانه وهيئاته القيادية "المكتب الدائم".
فهذه القلعة, كان يجب ان تظل عصية على الاختراق, وقد ساعدت التركيبة السياسية الرخوة لمجلس النواب, على تشكيل اغلبية برلمانية, من ثلثي المجلس, بجاهزية "قتالية" عالية, وعملت هذه الاغلبية على "تنقية" صفوفها من كل متردد او ممن يمكن ان يجرها الى معارك جانبية, او يسيء تفسير نواياها ومقاصدها.
حكومة الذهبي, استقبلت في المجلس النيابي الخامس عشر (الحالي) استقبال الابطال, ومنحت ثقة قياسية, وتعاون المجلس معها بحنان وتضامن وإسناد, وكان يميز في خطابه النقدي بين نقد السياسات ونقد الحكومة او رئيسها. وكأنه اراد ان يقول ليس للرئيس ذنب فيما يُقتَرف من سياسات في اتجاهات معينة (الخصخصة, بيوعات الاراضي, الميناء في العقبة, دابوق). وقد رد الرئيس على المعاملة باحسن منها, فقد تعاون مع مجلس النواب, بكل انفتاح وشفافية واحترام. وأحسب ان مجلس النواب منذ برلمان 89 لم يشهد حميمية وانسجاماً وتعاوناً مثل الذي يحدث مع حكومة الذهبي.
وقد نجح الرئيس في تكريس انطباعات ايجابية عن شخصه وطريقة تفكيره واساليب عمله. واظهر تغييراً ملموساً في الخطاب "الاجتماعي" للحكومة وسلوكاً عكس بعداً طبقياً ومسؤولية اجتماعية نحو الفئات الشعبية ومحدودي الدخل, طبعت الحكومة, بسمات, مرغوبة. وتعزز هذا الانطباع, بسلسلة المبادرات الملكية ذات البعد الاجتماعي التي اطلقها الملك بالتنسيق مع حكومته.
وسار رئيس الحكومة على حد السيف, ولم ينجرف او يندغم في "الحراك"، واظهر قدرة عجائبية, على ضبط النفس وهدوء الاعصاب, ما اثار حفيظة خصومه. وكان بسلوكه وانجازاته وطرائق عمله يخدم "المعركة" بتقديم النموذج والقدوة, لما يتوجب ان يكون. وشكّل نقطة توازن حظيت بدعم غير مسبوق من كل التيارات والقوى الاساسية في الطبقة السياسية الحاكمة. وقبل ذلك بدعم ملكي وثقة متنامية جعلت منه محط آمال في ان يكون على قدر الطموح الملكي في الاصلاح والتحديث والتطوير, وملء الفراغ, والسير في خطة وطنية اردنية جامعة للإصلاح, متدرجة بأولويات ومتوافق عليها.
ويبدو ان الرئيس حصل على ضوء اخضر, ليعيد تشكيل حكومته بحرية من دون تدخل او وصاية او اعتبارات قسرية. واظن ان إعادة التشكيل (التعديل), تعني ترسيم صعود شريحة جديدة من صلب الطبقة السياسية الحاكمة, منفتحة ومتنورة تسعى لهضم الافكار الاصلاحية للملك وتحويلها الى خطط عمل وتوجهات عامة.
وأحسب أنّ حكومة الذهبي الثانية (المعدلة), ستأخذ فرصتها كاملة, واذا ما نجحت في التعامل مع ملف الاصلاح السياسي والاجتماعي, لن يكون مستبعداً ابداً, ان تجري الانتخابات النيابية القادمة في موعدها الدستوري.
مجلس النواب, غير عابئ كثيراً بملف الاصلاح السياسي, وربما الرئيس عبدالهادي المجالي الاكثر اهتماماً وتطلعاً, الى اصلاح سياسي, يخدم رؤيته وتطلعاته. اما الغالبية العظمى من النواب, فيهمهم الاصلاح الاجتماعي, وهو اصلاح, يجب ان يكون حاضراً بقوة في برنامج الحكومة. فالقاعدة الاجتماعية الانتخابية للنواب, تحتاج الى سياسات تنهض بمستوى معيشتها.
لست واثقاً من تملك الفريق الوزاري المقبل, لخطة واضحة الاهداف في ملف الاصلاح, فنحن لا نتحدث عن حزب سياسي او ائتلاف حزبي له برنامج واهداف واضحة ومعلنة, نستطيع الحكم عليها.
سنكون امام حالة استشرافية, انتقائية, تجريبية, وكلما وسع التعديل القاعدة الاجتماعية والسياسية للحكومة, سهلت المهمة. ويظل الحوار الوطني, اداة استطلاع كاشفة, تعين الحكومة على الاستشراف, ونأمل ان تضم الحكومة كفاءات مؤهلة, لادارة مثل هذا الحوار, تكون سنداً للرئيس في ادارة هذه الملفات الحساسة.
وانصح الرئيس ان لا يضم ملف التعديل الى صدره, محتفظاً فيه لنفسه فقليل من الانفتاح لا يضير كثيراً.
اتوقع ان يشهد مجلس النواب, سلاماً داخلياً, في سنته الثانية من عمره المديد (لا يحلمن احد في انتخابات مبكرة). بعد ان كان مشدود الاعصاب في السنة الاولى. وتعبيرات الحرد والمناكفة, التي شهدناها, ما هي الا بقايا للاعراض الجانبية التي رافقت "الحراك" واستحقاقاته. فلا وجود لكتلة نيابية منظمة حقيقية, تملك رؤية وارادة سياسية, تمكنها من مشاغلة الحكومة واغلبيتها النيابية, ولا استثني كتلة نواب جبهة العمل الاسلامي التي تعيش ليومها.
حالة الاستقرار والاسترخاء النيابي, يجب ان تكون مناسبة لاعادة النظر في دور المجلس في المعادلة الجديدة للحكم. يستعيد فيها المجلس بعضاً من هيبته التي اهتزت خلال العام المنصرم.
فالمجلس يضم كفاءات محترمة, يجب تفعيل دورها والثقة بها, للارتقاء بالعمل البرلماني, بما يجعل من مجلس النواب, سنداً وعوناً للتوجهات الاصلاحية المأمولة.
ولا بد من الانفتاح على كل كفاءات وتيارات المجلس النيابية واشراكها في تحمل مسؤوليتها. خيار فيه صداع وشد وجذب, لكنه يغير المشهد ويضفي عليه مصداقية وأملاً، وهو الخطوة الاولى (وعربون) صدقية برنامج الإصلاح الذي يجري الحديث الحذر فيه وعليه.
لتكن الخطوات مدروسة في كل الاتجاهات, مع كثير من الثقة بالنفس. فهذا الملك يستحق حكومة قوية، وهذه الحكومة تستحق مجلساً قوياً ايضاً.
bassam.haddadin@alghad.Jo
بسام حدادين