بين الوعي واللاوعي، والرؤية والافتقار اليها، والحكمة والشعبوية كاد الاردن في الخمسينات ان يخسر نظامه وربما دولته لولا ان تغلب وعي النظام وفازت ارادته بالتفاف الشعب من حوله. الخمسينات منذ استشهاد الملك المؤسس عام 1950 وحتى اندحار مهزلة انقلابات العسكر عام 1959 كانت المرحلة الاخطر في تاريخ المملكة. الحكمة والاقدار جنبتنا مخاطر مراهقة العسكر التي ترافقت مع ضعف في الحكمة لدى نخبة سياسية وجدت مصلحة الاردن بالتحالف مع انظمة عربيه ما دفع العسكر لمحاولة الانقلاب على النظام. وكان أحرى بتلك النخبة ان تتمسك بتجربة الاردن الديمقراطية التي اوصلتها للحكم بالانتخابات. لكنها فضلت تحالفاتها مع انظمة عربية على المحافظة على التجربة الوطنية الوليدة التي كانت تضع اقدامها على عتبة الديمقراطية في وقت مبكر .
فيما يتعلق بمصائرها لا تقيس الاوطان الامور بحسن النوايا ، اذ لا يستطيع احد ان يشكك بوطنية الاحزاب التي فازت بالانتخابات وشكلت الحكومات في الخمسينات ، لكن النتائج التاريخية للأنظمة العربية منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم هي ما يصح ان يقاس به للتمييز بين الصح والخطأ . فقد ضحت انظمة العسكر العربية التي تحالفت معها النخبة السياسية الأردنية في الخمسينات بمقدرات وموارد بلدانها وارواح ابنائها وحياة شعوبها ، ووصلت بها الى حالها المأساوي الذي انتهت اليه . وكان ذلك نتاجاً طبيعياً لغياب مشروعية السلطة ، وعدم السعي لاكتسابها ، وهو ما يعود لنقص الحكمة والافتقار للرؤية والاستبداد وعسكرة السياسة وتسييس العسكر .
رغم كل المياه التي جرت من تحت اقدام المشروع القطري والخطايا التي عصفت بالشعوب والدول ، لا تزال النخب السياسية الأردنية المعارضة قوميه او غير قوميه على خطابها العاطفي الممالئ لأخطائها . فهي لضعف في بنيتها ، والتشبث برؤيتها ،لا تزال غير راغبة بمراجعة دورها في ضوء الحقائق التي توضحت منذ الخمسينات وحتى اليوم . لا تريد ان تنجز مراجعة عميقه لأفكارها ومواقفها ، مصرة على ما هي عليه بدل ان تتقدم للجمهور بخطاب علمي وموضوعي جديد لا تمترس فيه ، متعظة من تجربتها السابقة لتحسين خطابها الشعبوي وتقديم خطاب تنويري يفسح للحقائق والمستجدات ان تعبر عن نفسها .
مع تراجع تجربة التيار القومي في الحكم في كل من مصر وسوريا والعراق ، كان التيار الاسلامي السياسي يعرض نفسه كبديل . وفي الاردن سعى (الاخوان المسلمون) بعد تراجع التجربة الديمقراطية في الخمسينات الى طرح شعارهم (الاسلام هو الحل) غير معترفين بالفكر الديمقراطي المدني، ودون اي اعتبار لإعادة الحياة للتجربة الديمقراطية السابقة التي ضحى بها التيار القومي. وأكثر من ذلك فقد ابدوا لاحقاً اثناء حراك الربيع العربي استعدادهم لتجاوز نظام الحكم القائم واستلام مقاليد حكم البلاد .
آخر ما تجنبه الاردن بالذاكرة والحكمة مآلات ما كان ينتظر أن يكون ربيعاً عربياً . ولعل في ذلك ما يكفي لكي ينعش ذاكرة القوميين والاسلامويين في بلدنا ، ويقنعهم بمراجعة مسيرتهم وتحديث رؤيتهم . بيد أنه ليس من واجب المجتمع الاردني وحده ان يقرأ الدروس ويستخلص العبر من الذاكرة الوطنية ، نظام الحكم حري به ان يفعل هو الآخر. فمن الواجب ان لا يتوقف عن مراجعة درس الماضي وقراءة نتائج الحاضر . آخر مراجعاته كانت عام 1989 بإعادة الانتخابات النيابية ، ومنذ ذلك الحين مضت 28 من السنين اضافت الكثير مما يدعو الى تعميق الحكمة قبل ان تتآكل افضليات كثيره امتلكها النظام وتميز بها . ويحتاج ذلك الى الاستماع ممن هم خارج الاطر التقليدية وفي المقدمة منهم الشباب.