ما زالت أجهزة الدولة المدنية تتعامل بعقلية وقوع الفاجعة للتحرك، تاركة خلفها سياسة الاحتراز والاحتياط والرقابة المسبقة، فالدولة التي نجحت اجهزتها العسكرية والامنية في التفوق بعقلية الاحتراز والاحتياط القبلي، عجزت اجهزتها المدنية عن بناء منظومة احترازية تقي المجتمع والمواطن من اختلالات الرقابة ومن استثمار القطاعات المختلفة لثقوب الرقابة بدليل تكرار حوادث الحافلات القاتلة سواء للمعتمرين او غيرهم وتكرار التراخي في تقديم الخدمات العامة في مراكز الايواء وفي شوارع المحافظات، فثقوب الرقابة منحت بالتساوق مع منظومة الفساد الفرصة لكل راغب في تحقيق مبتغاه و ارباحه.
اجهزة الدولة المدنية كلها تأن اليوم ويسمع المواطن هذا الانين الذي تارة يعلو على انينه وتارة ينخفض، فالجمعة الرقابية باتت مثل الجمعة المشمشية، تأتي مع الحدث وتغيب بعد اسبوع على الاكثر، كما الفواكه الصيفية التي تُغرق الاسواق في جمعة واحدة ثم تغيب الى موسم آخر، فالعقوبة الاخلاقية ما زالت غائبة وتحميل المسؤولية للمسؤول الاول اكثر غيابا، فلا وزير يستقيل لخلل وترهل في اداء وزارته ولا من يعاقب الوزراء على ترهلهم وصمتهم على سلوكيات المراتب الوظيفية الاقل، وكأن الاجهزة المدنية تعيش في جزيرة معزولة عن ثيمة الدولة وجذر اساسها الذي حقق لها التفوق في الفضاء الاقليمي.
كوارث شبه يومية ومجازر متصلة تعيشها اللحظة الوطنية سواء على الطرقات التي تقصف كل يوم اعمار شبابنا، او على مسار الرقابة الغذائية التي نجحت في تغذية الامعاء الاردنية بكل ما هو فاسد وتالف وللاسف على باقي صُعد الخدمات الاخرى من صيانة طرق ومتابعة نظافة الشوارع، فكل الاجهزة المدنية تتبادل وتتقاذف التهم فيما بينها والحقيقة انهم جميعا متهمون وجميعا يستحقون العقاب، فسواء كان الشارع سياحي او نافذ فهو مسؤولية الحكومة واجهزتها في السياحة او الاشغال وسواء حصلت الحافلة على تصريح بالخروج او لم تحصل فالنتيجة ازهاق ارواح اردنية وانتهاك لحرمة الدم الوطني.
العقل الاداري ما زال محكوما بنظرية الارتياب والتردد ’ الارتياب من المسؤول والتردد في اتخاذ القرار اللازم اتخاذه، فالامين العام يرتاب من وزيره والموظف واثق من التردد في اتخاذ القرار اللازم بحقه ويراهن على هذا التردد، فضاعت الخدمة العامة التي كانت سر النجاح وكلمة التفوق، فالادراة الاردنية نجحت في السابق بحكم الحزم في القرار وعدم التردد في ازاحة المقصر واليوم تعاني الادارة العامة من التردد والارتباك، فلا احد يحاسب والجميع واثق من مرور الخطأ وتبريره وضياعه بين لجان التحقيق الوهمية ان وجد الخطأ لجنة تحقيق اصلا.
كوارث تحدث يوميا في دوائر الخدمة العامة، تطفيش مستثمرين وتطنيش مواطنين، وكل ذلك يمشي دون محاسبة، ناهيك عن تضارب الصلاحيات وتنازعها وناهيك عن تبادل الاتهامات وتحميل المسؤولية بسبب تضارب التعليمات والمسؤوليات، فمثلا مراكز الخدمات للمعاقين حائرة بين ثلاث وزارات، التربية والتنمية والعمل، فالذي يمنح الترخيص غير الذي يحدد المنهاج والذي يحدد المنهاج ليس هو الذي يقوم بتعليمه، ومع ذلك تمضي الايام وتزداد الكوارث ولا احد يفصل او يفصّل المهام ويزيح التداخلات والتدخلات.
ربما من المغامرة اقتراح ان تتولى المؤسسة العسكرية ادارة جهاز الخدمات من خلال متقاعديها لفترة زمنية لحين تأهيل قيادات خدمية بعد ان نجحت الادارة المدنية في تطفيش الكفاءات وتهميش القادرين على العمل، فالتعيينات الادارية العليا تعتمد القربى والنسب ولا تلتفت الى الكفاءة والقدرة، والاحباط يسود اللحظة والامل باتغيير والاصلاح يتراجع ولا احد يلتفت الى الخطورة المحدقة في نظامنا الادراي الذي يأن تحت ضربات المحسوبية.
omarkallab@yahoo.com
الدستور