رَجُلُ الإصلاح وما يكابده
ابراهيم العجلوني
01-07-2017 12:51 AM
لا ريب أن الفتنة قد ضربت سرادقها في ارض العرب ما بين الماء والماء، وانه قد استوطن فيها البلاءُ وعم البلاءُ ورخُصت الدماء، ولم يعد للدماء المسفوكة من يحقنها، وللسُبل المخوفة من يؤمّنها، وأن من ينتدب نفسه للاصلاح سيلقى من العنت ما يلقى، وسيتهمُ في عقلِهِ وبصيرته، وتتحيفه المعاطبُ وتأخذه المثبطات من كل جانب.
بلاد منكوبة، وأموال منهوبة، وعيشٌ نكدٌ، وحقوق مهتضمة، وحقائظ مستثارة، وألباب طائشة ونفاق مستفيض، ولا يواجه كل ذلك إلا بطويّة نقيّة صحيحة وعزيمة صادقة صريحةٍ، واحتمالٍ للنّصَبِ، واستقلالٍ لما يُنالُ في جانب الله من التعب.
***
ولقد يَستوقفُ رجلَ الاصلاحِ من يقول له: إنك أشبهُ شيء بقول الشاعر القديم:
كناطحِ صخرةٍ يوماً ليوهِنَهَا
فلَمْ يضِرْها وأوهى قرنَه الوَعِلُ
وإن خيراً من دعواك الى تصحيح الأوضاع، ومن سهرك الليالي في معالجة الادواء، ومن تعرّضك لأن تُدفع في صدرك، ويُضيّق عليك أمرك.. إنّ خيراً لك من هذا كلّه أن تدخل في زمرة «الثورييّن» الجذريّين وفي غمرة الشُطّار الراديكاليين الذين يدعون الى تدمير كل شيء وحرق كل شيء، وجعلِ عاليها - باسم ما يقضي به «الحقد المقدس» - سافلها او جعلها صعيداً زلقاً، لا تجد فيها - بحسب المسطرة الايديولوجية - عِوَجاً ولا أمْتا.
***
ولقد ينتهزُ بعضهم لحظة ضعف انساني اعترت المصلح، او فاقةً اهتضمته، او مرضاً احتبسه، فتراهم يلوّحون له بما سيكون من شأنه إن هو «تنازل» قليلاً او التمس الى الإدهان الذي يَستغرقهم سبيلا، او دخل في نحلتهم، او سقط سقوطهم، او - كما يقولون - صار عاقلا، ولم يعد عن مبدأ او قيمةٍ سائلا.
***
جواذبُ تتناوشه من كل جانب تريد لتُزحزِحَهُ عن الطريق اللاهب والمحجّة البيضاء، وهو معتصم بدينه ويقينه، محتسبٌ مكابدته عند الله، مستيقِنٌ ان لحياته الدنيا هذه نهاية قريبة وإن بَعُدت، وأنه مقبلٌ على رحمةِ ربه وان الدار الآخرة التي يوفّى الصابرون فيها أجرهم خيرٌ وأبقى، وأنها هي دار المقامة لا ما يتقلّب به المتقلبون.
***
من أجل هذه البنية النفسية لرجل الإصلاح، ومن أجل أنه يؤمن بقوة المحبة في ذوي رَحمة الانسانية الجامعة، ويصابر الأخطاء ويصبر للأعباءِ ولا يرتضى بالرحمة – التي هي قبس من الرحمن – بديلاً، فهو قائلٌ ما كان قاله «أبو الوفاء بن أبي المناقب».
إرحمْ أُخَيَّ عباد اللهِ كُلّهم
وانظُرْ إليهم بعينِ اللطفِ والشّفَقَةْ
وقَرْ كبيرَهُمُ وارحم صغيرَهُمُ
وراعِ في كلّ خَلْقٍ وَجْهَ من خَلَقهْ
***
ألا إنّ الاصلاح ينزِعُ عن الرحمة، والرحمة تنزِعُ عن الإيمان، وإذا لم يكن إيمان.. فلا أمان.