ثمّةَ من لا يأخذُ بأحاديث الأحاد، مع أن كثيراً من رواتها أهل ثقة وذوو أخلاق حِسان، ولا يمكن لموازين الجرح والتعديل أن تثلمهم في قليل ولا كثير.
وهذا التحفظ له أسباب ودواعيه، وهو مقبول في حدود، ويمكن فَهمه، وهو محمول على بالغ اهتمام المسلمين بأحاديث نبيهم الكريم عليه صلوات الله وسلامه.
وإذا كان هذا هو شأن أحاديث الآحاد على أهميتها فكيف يكون الامر مع التراجم الذاتية والروايات المفردة التي تأتينا اليوم عبر وسائل الاعلام المختلفة، ويتولى كِبرها أُناسٌ لا يَشْهَدُ لهم إلاّ أنفسهم، فَهُمْ يُبدئون ويعيدون فيما لا يصدقهم به أحد، ولا ينفكون يتحدثون عن بطولات «دون كيشوتية» ومواقف مُعجبة يصعب تصور حدوثها منهم قياساً على ما يرى المرء من أحوالهم؟
***
وفي المأثور من الحكمة الشعبية أن الشاب اذا تغرّب والكهل اذا مات مجايلوه هما مَظَنّةُ الكذب ما لم يعتصما بإيمان أو خُلُق حميد، وهيهات يكون ذلك إلا في أفراد متباعدين زماناً ومكاناً.
***
وأكثر ما تكون هذه الشهادات الكاذبة في أعقاب الحروب والأزمات، وفي غيبة من يعلمون حقائق الأمور، نجد ذلك في كثير من المذكرات السياسية والسيّر الشخصية والروايات المفردة (غير المتواترة ولا التي تصدقها الوثائق)، كما نجده في البرامج التلفزيونية التي يتحدث فيها مسؤولون سابقون، او اصحاب نفوذ، او سياسيون متقاعدون، إذ تستغرق هؤلاء جميعا نزعة تفخيم الذات وتزكيتها بغير شرائط التزكية، وتذهب بهم الاكاذيب كل مذهب وتجتمع من جملة ادعاءاتهم صورة مزيفة يكونون هم اول من ينخدع بها قبل الآخرين.
***
في مثل هذا التزوير تصبح الهزيمة نصرا مؤزرا، ويُصبح الفرق او الجبن شجاعة فائقة، وتصبح الخيانة ذكاء وألمعية، وتصبح ضلالة السعي أحسن الصنيع.
***
ثم إن من اسخف التقاليد (المستحدثة) في حياتنا الثقافية هذه «الشهادات» التي يقدمها اصحابها عن انفسهم، والتي غالبا ما يعززها الادهان والتملق بالوان من المبالغات المضحكة ومن لغو الحديث.
مواضعات استقر بها فساد العقول والاذواق والاخلاق، واوشك ان يطمئن اليها–في غيبة النقد والناقدين–المنتفعون بها.
لكنه استقرار على قلق وجفلان، وهو أشبه شيء بشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض، ما لها من قرار.
الرأي