قبل يومين كتبت على صفحتي في فيسبوك ما يلي ضمن وسم «أسفار»/ متى تدركين أنني أجدك كل ليلة مختبئة تحت وسادتي حين أخلد إلى النوم؟ وكالعادة جلبت العبارة تعليقات ولايكات، استوقفني من بين التعليقات ما كتبته سعادة النائب المحترم، الدكتورة ديمة طهبوب، وهو تعليق يتكون من ثلاث كلمات فقط وهي: اللهم إني صائم، لكن دلالتها فيها كلام كثير وكثير جدا، وما كنت لأخصص مثل هذه المساحة للحديث عن العزيزة ديمة لولا أنها خاطبتني علنا، بقولها أعلاه، ولو كانت أسرّت لي به على الحوار الخاص لما تجرأت على مناقشته علنا!
المهم، يعلم قراؤنا أن هذه العبارة: «إني صائم» بدون إضافة «اللهم» تقال في حالات، حددها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح، الذي رواه الشيخان: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ)، وهذا يعني ببساطة شديدة، أن الدكتورة ديمة أعتبرت ما كتبته من باب الرفث، أو الجهل، أو أنني قمت بمقاتلتها وشتمها، وهو الأوضح في النص، فهل هذا منطقي أو صحيح؟ طبعا من باب حسن النية، ثمة احتمال أن يكون تعليق ديمة مجرد مناكفة بيضاء، أو غمز ولمز بريء، وقد لا تقصد ما جاء في حديث رسولنا صلى الله عليه وسلم، بل ربما أرادت أن تنبهني إلى ضرورة نسخ ولصق الأدعية والمواعظ، أو تجنيب صفحتي أوضار ونجاسات المشاعر المرهفة، خاصة في رمضان، ومهما يكن من أمر، فالمعنى الذي اشتملت عليه العبارة في بطن الشاعر، وأنا موقن أنه طيب ولا يشتمل إلا على المشاعر النبيلة ولا أشك في هذا ابدا، ولكن قد يفهمها من يقرأها على غير ما أريد منها، لهذا لا بد من هذه التوضيحات، والشروحات والتعليقات!
أما الحب، الذي جاءت عبارتي في أجوائه، فهو شأن آخر، يخجل من الحديث عنه بعض أصحاب اللحى، بل ربما يعتبرون حديثنا فسوقا يستحق العقاب، وكثير منهم غارقون في ملذاته، ومغامرات بعضهم في التعدد واستيلاد أنماط جديدة من الزواج، تشهد على ولعهم به، ولكن ما علينا، الحب يا أختاه ليس مناهضا للوطنية والشرف والأخلاق الرفيعة، ولا هو مدعاة للاستسلام لمشيئة من يريد أن يقتلنا أحياء، فلا ننام إلا على بكاء، ولا نصحو إلا على ندب، وما بينهما نجلس في القرنة نمزق أنفسنا حزنا ونموت كمدا على ما تعيشه أمتنا من سياقات كارثية..
الحب يا أختاه مقاومة للموات والقبح الذي يريدون أن يدفنونا به أحياء، هو مصدر من مصادر الطاقة البديلة والمستدامة، إذ ترتفع أسعار الطاقة الأحفورية غير المتجددة، التي ربطوا مستوى حياتنا بها، فكأنها الحبل الذي يحيط برقابنا، يشتد حينا، ويشتد أكثر حينا آخر، ولا أقول يرتخي، فلا ارتخاء من بعد، بل مزيد من الشد بلا نهاية، أملا في إخراج الروح إلى بارئها، وهي ذاهلة عما يجري حولها، زاهدة فيما تشتمل عليه الحياة من لذاذات شريفة، كي يستمتعوا بها هم وحدهم!
الحب، علامة من علامات الرفض، والنأي عن الامتثال لمشيئاتهم الخبيثة، كي نبقى منشغلين بهمومنا فلا نعي ما يدور حولنا من إحكام لحالة حصار الفرح، ومصادرة الراحة، ومساءلة كل من يسقط عاشقا في حب من يحب، لأنهم يفضلون ان نعيش حالة الكراهية، والبغضاء والمشاحنة، لأن من يحب يرى الأشياء بصورة مختلفة، ويشعر أن الحياة تستحق أن تُعاش، وأن تتحسن ظروف عيشها، وهو في سبيل ذلك مستعد للدفاع عن «مكتسباته» فلا يسمح لأحد بمصادرة فرحته، وهنا مكمن الخطر، وهنا تحديدا يصبح الحب خطرا على أمنهم، ويتعاملون معه باعتباره «سلعة» ملاحقة قانونيا، شأنها شان المخدرات والسلاح الفتاك، الحب العفيف الطاهر النظيف الذي نكتب عنه، وفي أجوائه، يجلو الخلق ويهذب النفس، وهم يريدوننا وحوشا ننهش لحم بعضنا البعض، ونلهو عنهم بتعذيب أنفسنا، والبطش بكل من يفكر أن يحب، تارة باسم الدين، وتارة باسم الحفاظ على الأخلاق و»قيم المجتمع!» وأخرى بحجة الحفاظ على «الحياء العام!» من أن يخدش، وهل ثمة قيم للمجتمع، وخدش لحيائه أكثر من مصادرة كرامته، وقهره برغيف خبزه، واستعباده بوظيفة هي أشبه بما يقوم به حمار الساقية؟ هل ثمة إهانة أكثر من أن تُسلب الكبرياء والرغيف، إلا أن يكون مغمسا بتراب الذل وماء الوجه؟
هذه دعوة مفتوحة وجادة للحب، وللحياة، ومقاومة السواد والكراهية، والتصدي لمن جعل سياقات هذه الأمة، سلسلة من الهزائم والنكسات والنكبات، فسلبها حياتها، والحب يا أختاه إعلان حرب على كل هذه البشاعات التي يريدون أن يغرقونا بها، وطنيا وقوميا وإنسانيا!!
الدستور