غابت ضحكات سدين وابتساماتها، وأخذت معها أحلاما لم تتفتح، وأمنيات أهلها لها برحلة حياة لا تشابهها رحلة أخرى.
رحلت سدين، وأبقت الجرح الذي أصابنا منفتحا على اتساعه، وتركت لنا أوجاعا مؤلمة سنحتاج وقتا طويلا كي نداويها.
قبل ذلك، كان صراخها يملأ زوايا المستشفى. كانت تستنجد وتنادي علّ أحدهم يلتفت إليها، ينقذها، يخفف من وجع لم يعد يحتمله جسدها الغض. صراخها أزعج من يحملون اسم “ملائكة الرحمة” مطالبين والدتها إسكاتها لأنها تزعج باقي المرضى..!
الأم كانت تموت في اللحظة آلاف المرات، وهي تشعر أنها تفقد فلذة كبدها شيئا فشيئا. لا شيء في يدها يخفف من آلامها، ويسكن صداعا ينهش رأسها، بينما غابت عن المشهد إنسانية من يفترض فيهم أن يسارعوا للتخفيف عنها.
الأب يقف عاجزا ومقهورا، وهو الذي يرى طفلته تكابد الألم، بينما هو لا يملك ثمنا لصورة طبقية لابنته التي لم تكمل 9 أعوام من عمرها، فيما هو يراها تموت وجعا في كل لحظة.
لم يملك إلا أن يراجع جهات مختصة أملا بالحصول على إعفاء طبي، يستطيع من خلاله أن يعالجها، ويعيد لها ضحكة بريئة غابت بحجم حضور الألم.
كان يملك بعض الأمل منتظرا صدور الإعفاء الذي يسمح لها بمتابعة العلاج بعد أن عانت على مدار أيام من صداع وألم شديد بالرأس، تبين أن سببه توسع بحجرات الدماغ.
لم تتمكن من الحصول على الرعاية الصحية اللازمة بإجراء عملية جراحية لها، كونها غير مؤمنة صحيا، بانتظار إعفاء طبي لإجراء العملية في مستشفى الملك المؤسس. فمكثت بأيامها الأخيرة في مستشفى الأميرة رحمة بانتظار الحصول على الإعفاء الذي كان الموت أسرع منه، لترحل سدين، وتدفع ثمن إهمال وتقصير “نظام طبي” غابت عنه مشاعر الإنسانية.
جرح لن يلتئم لعائلة طفلة تضاعف قهرها وألمها بعد تقرير لجنة التحقيق في حالة الوفاة قبل أيام قليلة، والذي رمى كل المسؤولية على الأهل بحجة أنهم تأخروا في إجراءات الإعفاء!
أيوجد ظلم أكبر من ذلك؟ حين يعاقب المظلوم وينجو الظالم؟!
نتائج اللجنة أخلت مسؤولية الكادر الطبي في مستشفى الأميرة رحمة من أي تقصير، فيما حملت أهل الطفلة مسؤولية “التلكؤ” بالسير في إجراءات الإعفاء الطبي لنقل الطفلة إلى مستشفى الملك المؤسس في إربد، وفق التقرير الذي نشرته “الغد” للزميلة نادين النمري.
وبعد كل ذلك لا يعترف المسؤولون بأي تقصير، بل يتسابقون جميعا لإعطاء التبريرات وصكوك الغفران لهم ولمؤسساتهم الطبية، ويعيدون لنا ذات السيمفونية المليئة بوعود التأمين الطبي الشامل وإعادة النظر بنظام تلك التأمينات.
في وطننا، يغيب، للأسف، كثير من الحقوق العادلة البسيطة للضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة، والذين لم يعرفوا يوما واسطة أو محسوبية، ولا يمتلكون صوتا هادرا يعيد بعضا من حقوقهم الضائعة. في حين أن من يملكون السلطة والتأثير تقدم لهم الخدمات على أكملها، ويستفيدون من الإعفاءات الطبية، وينفق على علاجهم مئات الآلاف من أموال الشعب!
حياة الإنسان لا تخضع لأي قوانين وأنظمة، وأوجاعه ليست رهن توقيع قد يتأخر لأن مسؤولا لم يستخدم روح القوانين، أو لم يجد الوقت الكافي للنظر إلى الحالة من منظور إنساني؛ التأخر فيها للحظات قد يؤدي للموت، والسرعة إلى الحياة.
طالما هناك كثير ممن يستفيدون من غياب إقرار قانون المساءلة الطبية، سنبقى مكاننا نكمل مسلسلات الموت لمرضى كانوا ضحية بين أيدي أطباء “منعدمي المسؤولية”، كل ما يهمهم جني المال.
سدين ربما كانت تلهو اليوم بيننا مع أشقائها وأقرانها وضحكتها تزين زوايا بيتها لو كان هناك سرعة بالاستجابة لعلاجها. لكن بعضا من أوراق وحبر وتواقيع متأخرة أفقدت طفلة بريئة حياتها لتظل صرخاتها المدوية تلاحقنا.. ويبقى السؤال كم “سديناً” سنحتاج أن نفقد حتى يستعيد البعض إنسانيتهم؟!
الغد.