قرار الأمم المتحدة الذي أكد أن لا رجوع عن المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين برعاية امريكية أعاد كرة "وهم سلام أنابوليس" إلى المرمى الدولي بعد تغييب هذا الملف عن أجندة مجلس الأمن لخمس سنوات وسط انحياز امريكي أعمى لإسرائيل.
فهذا التحرك يأتي في سياق محاولة إدارة الرئيس الجمهوري جورج بوش توريث خلفه باراك اوباما ملف أنابوليس الذي وفر لإسرائيل غطاء لتكثيف نشاطها الاستيطاني ومحاصرة غزة وتدمير ما تبقّى من الشرعية الفلسطينية. المحزن أن القرار الأخير لا يتطرق الى موضوع السرطان ألاستيطاني وضرورة وقفه مع انه فتك بما تبقى من التواصل الجغرافي للأراضي المحتلة موصدا الباب تقريبا أمام أفاق قيام دولة فلسطينية متواصلة جغرافيا كما بشر بها بوش مرارا منذ عام 2002 في مشهد عقّده الانقسام الفلسطيني وسياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.
لذلك ثمّة تساؤل حول مغزى صدور قرار 1850 الذي سيقيد أي جهد امريكي جديد لحين تشكيل حكومة ائتلافية في إسرائيل بعد الانتخابات التشريعية المبكرة التي ستفرز في 10 شباط (فبراير) الليكودي اليميني بنيامين نتنياهو, استنادا إلى غالبية استطلاعات الرأي.
الأقلية المتفائلة من مسؤولين وساسة في الأردن تقول إن القرار قد يوسع هوامش تأثير دول أخرى على ملف السلام, مثل روسيا ودول دائمة العضوية في مجلس الأمن بعد تغييب هذه الأطراف إلا في اطار اللجنة الرباعية الدولية التي تشكّلت لتنفيذ رؤية "خارطة الطريق" قبل ستة سنوات بمباركة مجلس الأمن?
برأي هؤلاء الساسة, يشكل القرار الأممي "بديلا معقولا دولي الطابع" لمحاولات دول الاعتدال العربي, على رأسها الأردن, لاستصدار إعلان مبادئ فلسطيني-إسرائيلي استنادا إلى نتائج مؤتمر أنابوليس قبل أفول ولاية بوش. مثل ذلك الإعلان كان سيشكل قاعدة انطلاق للإدارة الجديدة صوب تنفيذ وصفة لحل على أساس الدولتين, مع أن الملامح العامة لهذه الوصفة ما تزال غامضة بطريقة مريبة.
في مطلق الحالات, لن تفضي "وصفة أنابوليس" إلى قيام أكثر من دولة فلسطينية مقطّعة الأوصال, لا تتوفر لها عناصر الاستمرار والحياة أو الاعتماد على الذات. ذلك أن توليفة أنابوليس, كسابقاتها من المبادرات المبنية على شراء الوقت, لم تشرح تفاصيل أساسية لتحقيق الحقوق الوطنية والسياسية للفلسطينيين ولم تعد تتحدث عن المرجعيات الدولية التي ذكرت في مختلف الأدبيات السياسية العربية والغربية كأساس لحل القضية منذ صدور قرار 242 عام .1967 كما أغفلت حق عودة اللاجئين ولم تقدم أي حلول لملف القدس وغيره من القضايا الجوهرية. مضامين تلك الوصفة تعترف بشرعية دولة قائمة اسمها إسرائيل ودولة أخرى على "الورق" سيكون اسمها "إن شاء الله" فلسطين.
لكن الواقعية تطغى على تفكير هذه الأقلية. لأن"العور يظل أفضل من العمى".
في المقابل هناك أكثرية متشائمة بما فيها بعض أوساط القرار الرسمي تقر في جلساتها المغلقة بأن قرار 1850 عديم الجدوى, لن يؤخر أو يقدم, وإنما يعطي شرعية دولية للتنازل عن مرجعيات التفاوض المتوافق عليها منذ انطلاق مؤتمر مدريد الدولي للسلام عام .1999 وتجادل هذه الفئة أيضا بأن القرار لم يصدر بناء على الفصل السابع من الميثاق الدولي الذي يجيز لمجلس الأمن اتخاذ تدابير قسرية لفرض تنفيذ القرار بما في ذلك استخدام القوة. ولم يتضمن أي إجراءات واضحة لوقف الإجراءات الإسرائيلية أحادية الجانب, غير القانونية بما فيها الاستيطان الذي يعوق أي تقدم صوب السلام. كما تحدث القرار على استحياء عن ما قام به العرب مجتمعين تجاه السلام مع إسرائيل من دون أن يدرجه كمرجعية لبناء السلام. إذ جاء فيه: "يلحظ (القرار) أهمية المبادرة العربية" المبنية على مقايضة الأرض العربية المحتلة بالسلام والاعتراف.
علاوة على ذلك يصر المجلس على فكرة "ثنائية المفاوضات" وكأن المحادثات والقضايا الأساسية العالقة مثل ملف اللاجئين لا تهم دول الجوار, مثل الأردن أو مصر, لبنان وسورية.
باختصار, القرار في أفضل الأحوال "مائع كمسيرة انابوليس". وهو لا يوفر"وصفة معقولة" لساكن البيت الأبيض الجديد لمقاربة عملية السلام في المنطقة استنادا إلى جهود سلام سابقة وأكثر فعالية مثل تلك التي صدرت في الأيام الأخيرة عن إدارة سلف بوش, الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون وعرفت ب¯ "هوامش كلينتون".
بنظرة محايدة حيال ما يقوله المتفائلون والمتشائمون في الأردن, ومن واقع الوضع الفلسطيني والإسرائيلي والإقليمي والدولي, لا تشير الدلائل إلى إمكانية حدوث تشبيك حقيقي لشهور لجهة إحلال السلام بانتظار انتخابات إسرائيلية ستضع العرب أمام شرّين لا ثالث لهما.
ففي حالة شكل نتنياهو ائتلافا حكوميا, سيعني ذلك استمرار إسرائيل في خلق وقائع جديدة على الأرض ضمن سياسة الأمر الواقع ومواصلة الإستيطان ومصادرة الأراضي وتهويد القدس وعلى الأرجح تصعيد عسكري في غزة مع طرح خطوات أو مبادرات تجميليه تحت مسمّى تحسين الأحوال المعيشية والاقتصادية للفلسطينيين. وإذا شكّلت زعيمة حزب كاديما تسيبي ليفني ائتلاف "وسط يمين", فإن عيونها ستكون مركزة على إسرائيل وأمنها ما بعد عام2020. فهي تريد التعامل مع خطر "القنبلة الديمغرافية" التي يشكّلها عرب ال¯ 1948 في الدولة العبرية. لذا روّجت قبل أيام لحل مشكلة "عرب ال¯ 1948" عبر ممارسة طموحاتهم السياسية وأحلامهم الوطنية في مكان آخر اسمه دولة فلسطينية ستقام على ما تبقى من أراضي الضفة الغربية. وستطرح ليفني أفكارا تتصل باستبدال ألاراضي والسكان, خاصة في منطقة المثلث إلى الدولة الفلسطينية المقترحة مقابل ضم إسرائيل لمساحات واسعة بما فيها المستوطنات والأراضي على امتداد جدار الفصل.
هذا الترتيب لن يعطي الدولة الفلسطينية المقترحة قابلية للحياة. وبالتالي ستفرض البحث عن "صيغ دستورية" تمنحها الحياة عبر طروحات كالكونفدرالية أو الفيدرالية مع دول تجاورها مثل الأردن, حيث نصف السكان من أصول فلسطينية غالبيتهم يحملون جوازات سفر أردنية.
هذه الصورة المقلقة تضع مطبخ القرار الأردني أمام تحدي الإجابة على أسئلة إستراتيجية منها: هل من مصلحة الأردن الوطنية أن تتعاطى الدولة وتدعم جهود التوصل إلى اتفاق سلام على المسار الفلسطيني - الإسرائيلي لقيام دولة فلسطينية مشتتة الأوصال وهو على الأرجح ما سيفرض ضغوطا سياسية واقتصادية هائلة على الأردن للدخول في روابط سياسية مع هكذا دولة. ألامر الذي من شأنه تهديد بنية الكيان الأردني وربما يقوض عقده الاجتماعي وهويته السياسية? السؤال الآخر المطروح: هل سيستطيع الأردن التعبير عن رفضه لهكذا طروحات من دون دفع ثمن باهظ? أو, على الأقل, هل سيكون بالإمكان الوصول إلى "صيغ خلاّقة لدرجة كبيرة" تسمح للمملكة التعامل مع تداعيات مثل هذا السيناريو بشكل يمكنها من الاستجابة لحدة الضغوط المحتملة من جهة وإقرار صيغ مبتكرة من شأنها أن لا تهدد أو تضعف العمود الفقاري السياسي للدولة, وذلك عبر علاقات دستورية "فضفاضة" توفر الأكسجين للدولة الفلسطينية التي ستحتاج إلى جهاز إنعاش مدى الحياة?
التيار الاشد تشاؤما داخل النخب السياسية يرى أن الأردن في مرحلة القدر المحتوم إزاء الهوامش المتاحة أمامه في التعامل مع المخرجات العقيمة والمؤذية لمسار انابوليس, وأن أفضل السناريوهات المتاحة تكمن في جمود طويل الأمد على مسار محاولات صنع السلام تتيح لصانع القرار تحصين الجبهة الداخلية وتحشيدها وتوعيتها لهذه المخاطر, والعمل على تحقيق دولة القانون والمواطنة المتفقة على أساسيات إستراتيجية في حياة الدولة الأردنية غير قابلة للعبث أو التغيير.
من جهته, فان الاردن الرسمي, بحسب مسؤول رفيع, سيظل يعمل ما في وسعه من اجل توجيه مسار التفاوض صوب نهايات تكفل قيام دولة فلسطينية مستقلة, وناجزة, في الضفة وغزة, وعلى أساس حدود ,1967 وبشكل يمنح هذه الدولة قابلية الحياة والاستمرار "من دون الحاجة للحديث الآن أو في أية مرحلة مستقبلا عن فيدرالية, أو كون فدرالية".
ضمن هذا المشهد المظلم يجد الأردن حالته شبيهة بحالة من يجلس في غرفة مظلمة مع غيره من المحتفلين من إسرائيليين وفلسطينيين وقوى إقليميه أخرى, حيث تتركز أنظار الجميع على كعكة من الحلوى مضاءة بشموع باهرة توفر الضوء للجميع. لكن حالما يتم إطفاء الشموع, يتسابق الجميع لنهش قالب الحلوى مستفيدين من الظلمة. وبالطبع فإن الأقوى يتمتع بأكلها بينما يترك الأضعف مأخوذا بسحر ذكريات مشهد الغرفة الرومانسي قبل الإجهاز على "الكعكة التي كان اسمها السلام".0
نافذة: لن تفضي وصفة انابوليس الى قيام اكثر من دولة فلسطينية مقطعة الاوصال لا تتوفر لها عناصر الحياة.
العرب اليوم.