الفساد آفة تأكل ما تبقى من قيم واخلاق ونظم وتلحق الاذى بتفكيرنا وشعورنا وعلاقاتنا وتهدد وجودنا. في التاريخ البشري كان انتشار الفساد مقدمة لنهاية المجتمعات وتبدلها. لذا فقد حرصت المجتمعات الواعية على تأسيس الآليات المناسبة لتعريف الممارسات الخطرة والتعديات على القيم والنظم والحقوق العامة والفردية، وعملت على إصدار التشريعات التي تجرمها والاليات الفاعلة للرقابة والرصد والاكتشاف لها والمعالجة القانونية والاعلامية والسياسية لها، بما يحقق سرعة اكتشافها والاستجابة لها ومعالجتها بصدق وشفافية وحزم.
منذ ايام مدد التونسيون العمل بقانون الطوارئ لثلاثة اشهر اخرى، حيث استقبلت الصحافة والشارع القرار بكثير من الارتياح والترحيب. المبررات التي اعطيت لقرار تمديد العمل بالقانون كانت، اضافة الى الحفاظ على الامن وتعقب العصابات الاجرامية، تمكين الحكومة والاجهزة من ملاحقة الفساد والفاسدين.
بفعل ظهور المدن الكبرى وانتشار التعليم وتكنولوجيا المعرفة والاتصال والصناعة والنقل وتنوع الاعمال واتساع قاعدة العاملين بالتجارة والخدمات، حدثت في العالم تغيرات واسعة طالت البنى والنظم والقيم والادوار والمكانات واستجاب لها الافراد والجماعات بطرق متباينة.
في المجتمعات الصناعية تطورت نظم ومؤسسات واخلاق لتحديد اسس التقدم ولتناسب نوعية الانشطة والحياة التي تعيشها المجتمعات، حيث يتشكل البناء الاجتماعي من جماعات تقوم باعمال ومهن وادوار ضرورية ومهمة للجميع، ويتخصص كل فرد في اداء دور او مهنة يعمل ما بوسعه على إتقانها والتميز في أدائها. ويقوم الترابط الاجتماعي من خلال تشابك الادوار والاعتماد المتبادل بين الوظائف التي يؤديها الجميع بحرفية واقتدار. في هذه المجتمعات أسس ومعايير يحصل بموجبها الافراد على الأجور والمكافآت والمراتب ولا يتقدم احد على الآخر لاي سبب غير الكفاءة والجدارة.
الحالة التي تمر بها مجتمعاتنا والتداخل الواضح بين البنى التقليدية والهياكل الحداثية للمجتمع هي المسؤول الاول عن التشوهات والممارسات والظواهر التي تعاني منها. ففي حين ما تزال العشيرة والجماعة والعائلة هي أحد العوامل الاساسية في تحديد موقع ودور ومكانة الفرد ظهرت في الافق عوامل التعليم والاختصاص والموهبة كمؤهلات تدفع باصحابها للمطالبة بحقهم في الاستخدام والتقدم والمكافأة. تأخّر المجتمع في اعتماد اسس واضحة لتوزيع الادوار والمكانات واستمرار المزاوجة او تغليب بعضها على الآخر تبعا للظروف والمتغيرات كان سببا من الاسباب التي اسهمت في خلق ثقافة الاستحقاق والمحاصصة التي نعاني منها اليوم.
ما لم يحدد المجتمع هويته واتجاهه واسس التقدم والأخطار التي يمكن ان تهدد القيم والبنى والتنظيم ويعمل على رصدها واكتشافها والاستجابة لها بشفافية وحزم، فإن من غير المتوقع اختفاء روح التذمر وعقلية الاستحقاق والمحاصصة التي أصبحت مظهرا من المظاهر التي يصعب التغاضي عنها.
خلال الاسابيع الثلاثة انشغل الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي وسهراتهم الرمضانية في الحديث عن حجم المكافآت والرواتب والبدلات التي يحصل عليها احد الاشخاص الذي عين رئيسا لمجلس ادارة احدى الشركات وتبريراته لما يحصل وسلسلة التعيينات التي جرت في مجلس ادارة صندوق الضمان الاجتماعي والملكية الاردنية والسفارات، وصولا الى قضية المستشار الذي أنهيت خدماته. مثل هذا الحديث سيستمر عند كل قرار او مناسبة اذا لم نؤسس لنهج مختلف يتجاوز الاساليب الارضائية والمعادلات ووصفات الترقية والنقل والعطاءات التي لا يفهمها غير الذين يصيغونها.
في ثقافتنا الشعبية وتاريخنا الكثير مما يبرر لبعض التجاوزات "اللي مافيه خير لجماعته مافيه خير لحدا" او "فلان عفيه عليه بدبّر حاله" الى ان نصل الى "ان فلان يستحق لانه مشروع شهيد" او "اللي مثله ومثل ابوه بطلعلهم".
الاختلالات التي تحصل هنا وهناك ليست مادة للتسلية والتندر. بل هي مشاكل حقيقية تحتاج الى وقفة ومراجعة واصلاح حتى ولو تطلب ذلك العمل بقانون الطوارئ كما فعل إخواننا التوانسة.
الغد