دولة المدراء العامين العميقة
ماجدة المعايطة
17-06-2017 03:32 PM
ما دام أن موضوع المنظومة الادارية المحلية قد انفتح الآن ، بكل ما عليها من ملاحظات سلبية متوارثة ، فلا بأس أن يسمع الباحثون عن علاجات جذرية ، شيئا مما يعرفه معظمهم وما هو مسكوت عنه بالتواطؤ.
أقصد نقطتين : الحاجة لإلزام الحكومة والقطاعين العام والخاص بتطبيق المعايير العالمية المعروفة في اختيار المسؤولين وفي تقييم ادائهم بشكل علمي شفاف
والثانية موضوع سلوكيات الغالبية من طبقة المدراء العامين الذين_ كما يعرف الجميع – انهم توارثوا عقلية ونفسية "الامبراطور الصغير " الذي يمتهن احباط مرؤوسيه وتجريف عقلياتهم من اي نزعة للإبداع والابتكار ، وهم في ذلك يحرسون بيئة ادارية حاضنة للفساد بمختلف اشكاله، واولها فساد عرقلة الخدمات والاستثمار .
واحدة من مفارقات بيئة المدراء العامين ، تتمثل في ان لدينا كفاءات فائضة في التعليم والثقافة والمشاريع الريادية ، اكتسبت معارف ومدارك ومهارات مميزة بكل المعايير النظرية . لكنها كفاءات محظور عليها تطبيق تلك المدركات. حتى إذا انتقلوا الى دبي، مثلا، فان عبقريتهم تأخذ مداها في التعبير والتنفيذ للإصلاح الاداري والريادة في الابتكار .
وأيضا لدينا كذلك رؤساء حكومات اذا ما خرجوا من الدوار الرابع فانهم ينظّرون بكل انواع الاصلاح الاداري والاستثمار والتفكير خارج الصندوق. بينما حين كانوا في كرسي الولاية العامة أغرقوا في نقيض كل الذي يتحدثون عنه وهم في " البراح ".
هي المفارقة التي تطبع منظومة الادارة والمديرين العامين: يعرفون الصحيح المفترض، لكنهم لا يريدون او لا يستطيعون تطبيقه
ما حصل نهاية الاسبوع الماضي من عمليات جراحية سريعة لمعالجة أورام مزمنة في المنظومة الادارية ، هو أمر شهدتُ مثله الكثير المكرر خلال السنوات التي أتاح لي عملي التلفزيوني أن أكون على مسافة قصيرة من مواطن التوجّع وطرق صرف روشتات العلاج . ولذلك اصبحت الذاكرة العامة تختزن نسخا مكررة لفزعات الحديث عن الاصلاح الاداري ،مع كل حكومة بلا استثناء . فزعة الحديث عن الاصلاح الاداري ،لتبرير تقصير الحكومات في المواكبة والمبادرة ، فتلجأ لإقالة بعض الوزراء وبعض المدراء العامين ، دونما تبيان لسبب الاقالات او تفسير لاختيار الاسماء البديلة.
وبذلك تجد بعض الحكومات نفسها وقد دخلت فترة الوقت المستقطع من زمن مباراتها.
الوزير منصب سياسي. هذا امر معروف. القيادة الادارية الحقيقية في القطاع العام هي بيد الامين العام والمدراء العامين الذين يفترض ان يكونوا هم مادة الاصلاح والتغيير كونهم هم خميرة الخلل الذي يتراكم و يتواطأ الجميع على ادامته وعدم الاشارة له .
لقد تراكمت لدينا بيئات عمل بيروقراطي تسمح للمدير العام ان يكون قوة شد عكسي عبقرية في التنمّر وتسميم مسالك الخدمة وفي قمع اي مظاهر للتفكير المبدع خارج المألوف . ولو سألت أي موظف في الدولة لسمعت العجب الذي يفسر كيف يأتي هؤلاء المدراء العامون الى مواقعهم ، وكيف يتصرفون بمنطق الشلل المتقاطعة التي ترعى ظواهر الفساد الناعم والخشن الذي سمعنا عنه الكثير خلال الايام القليلة الماضية .
تعديل الحكومات "المايلة" لا يحقق الاصلاح الاداري الذي اصبح الان يحتاج الى ثورة ادارية بيضاء . وقناعتنا هي ان الثورة الادارية المحكي عنها، يُفترض ان تنطلق من مكاتب المدراء العامين الذين هم المشكلة وحلّها. فهم الذين يمنحون المنظومة العامة مفهومها وادواتها والياتها اليومية .
للتذكير، فإن وثيقة تنمية الموارد البشرية " التي جرى اقرارها مؤخرا ، لم يجف حبرها بعد . فيها ثلاثة ضوابط يمكن أن تنهي نهج التعديلات الوزارية غير المقنعة ، وايضا نهج الاقالات والتعيينات التي لا يعرف الناس اسبابها الفنية والسياسية.
وثيقة تنمية الموارد البشرية تلزم الحكومات باعتماد معايير واضحة وملزمة فعلا للتوزير ، ،ومثلها معايير أداء شفافة يتم على اساسها اقالة المسؤول ومحاسبته اذا قصّر فعلا .
لكن صُلب الاصلاح الاداري الحقيقي الذي تسعى له وثيقة تنمية الموارد البشرية ،هو عند المدراء العامين. فهم في منظومة العمل العام "دولة عميقة" تمتلك من العقلية والسلوكيات والمصالح والتنفذ ما يفرض ان يكونوا هم الهدف الاول للثورة البيضاء الادارية المستحقة.