خدم والدي في القوات المسلحة لمدة قاربت ربع قرن، حيث احيل الى التقاعد في ثمانينات القرن الماضي برتبة مقدم- قائد كتيبة.
منذ ذلك الحين وحتى اليوم ما يزال والدي يردد مقولة "لن أفرط بذرة من ترابه الطهور"، مع الذكر ان راتبه التقاعدي آنذاك لم يتجاوز الـ 92 دينارا.
علمنا والدي منذ نعومة اظفارنا انه لا يكفي أن نحب الوطن بقلوبنا، بل يجب علينا أن نفصح عنه، ليس بالكلام، بل بالأفعال التي سترتقي به عالياً.
كما علمنا ان خدمة مصلحة الوطن قبل مصالحنا الشخصية، والالتزام بقوانينه والمحافظة عليه أمر واجب وفرض.
بالرغم من الخدمة العسكرية التي قاربت الربع قرن، الا ان والدي الذي قارب عمره السبعين عاما ما زال يشعر بأنه مقصر ولم يقدم الا القليل لان هذا الوطن يستحق الأفضل دائما، فالخروج من الوظيفة او التقدم بالعمر لا يعني التوقف عن خدمته.
هذا الأمر دفعه الى الزج بولدين من اولاده الى دخول القوات المسلحة ليكملوا مسيرته، بالرغم من ان معدلهما في الثانوية اتاح لهما الدراسة في الجامعة الاردنية، حيث لم يفكر اي منهما او يتردد بحمل السلاح والدفاع عن الوطن فهما نشآ وترعرعا في بيت عسكري بني على حب الوطن والانتماء له.
لم اسمع والدي في يوم من الايام ان قال انه مشروع شهيد، فحتى عظمة الشهادة لم يطمع بها فمن يعشق الوطن لا ينتظر منه مقابلا.
جميع ابناء والدي تعلموا وحصلوا على الشهادات العليا في جامعاتهم ولم يسع ابي الى ان يستلم اي منهم منصبا، وذلك مقابل ما افناه من عمره في صحاري خو، التي لا يعرفها ابناء الذوات والشعراء.
لم يغضب ولم يتكلم عن الوطن لان أولاده حتى وظيفة ديوان الخدمة المدنية لم يحصلوا عليها حتى اليوم، ولم يكتب سري وعاجل الى مدير مكتب جلالة الملك والى أمين عام الديوان الملكي ولن اذكر الى رئيس مجلس الأعيان، فوالدي ليس عضوا بهذا المجلس ليضع رئيسه في صورة الأمر.
كما لم يشتط غضبا، لان المناصب توزع لمن هم اقل كفاءة من اولاده، ولم يتوعد ان يهجو رئيس ديوان الخدمة المدنية بقصيدة لأن اولاده لم يتعينوا عن طريقه.
لم يزاحم على المناصب لأولاده وتركها لأبناء الذوات ولمشاريع الشهداء الذين ورثوا المناصب، لان والدي تاجر بالوطن فقط لا غير.
أحسد والدي لأنه لا يجيد استخدام الكمبيوتر ولا يملك حسابا على الفيسبوك، فهو لم يعلم عن السجال الذي وقع بالأمس بين الشاعر الكبير "مشروع الشهيد" العين حيدر محمود ورئيس الوزراء هاني الملقي، لقيام الاخير بإنهاء خدمات ابن العين وفصله من رئاسة الوزراء التي عمل بها مستشارا منذ سنوات.
مثل والدي الكثيرون في بلدي، ممن تركوا المناصب تقسم بين الذوات واولادهم، فوالدي وامثاله اختاروا الوطن وهم اختاروا مقدراته.