حين لا يكتم الفيلسوف شهادته «ذكرى من سحبان خليفات»
ابراهيم العجلوني
17-06-2017 03:07 AM
توضيح لا بد منه: يجد القارئ الكريم تالياً مقدمتي لكتاب الصديق الراحل الدكتور سحبان خليفات رحمه الله «الفكر العربي المعاصر:دراسات ومواقف» الذي كان منتظراً ان تصدره وزارة الثقافة في سياق منشوراتها حين احتفلت بمادبا عاصمة للثقافة الأردنية، ولكنه لم يصدر حتى هذه الساعة.
* * *
تتبوأُ هذه المجموعة من الدراسات والمقالات مكانتها في وعينا المعاصر، وطنياً وعربياً وإسلامياً – ولا تعارض بين هذه الابعاد الثلاثة – من كونها تطبيقاً مشهوداً، او تمثلاً قائماً؛ لما ينبغي ان تقوم به الفلسفة؛ او لدورها الواجب ان تضطلع به في المجتمع. ونحن نجد في الحديث الذي اجراه المؤلف الكريم مع الفيلسوف العربي الدكتور زكريا ابراهيم، اواخر عام 1973م توضيحاً لحيثيات هذا الدور المطلوب، اذ على الفلسفة «اذا ارادت البقاء ان تأخذ دور النقد الاجتماعي للجوانب المختلفة من الثقافة العربية بناءً على أُسس موضوعية»، ويكون ذلك «بوصف المشكلات الاساسية وتحليلها، واعطاء الظواهر الاجتماعية أبعادها الفكرية الحقيقية وردها الى عللها (الجوهرية) لا العرضية» بما في ذلك «القيم الضمنية التي تحكم مواقفنا»، ثم – وهذا هو بيت القصيد – ان تقدم حلولاً «تفجّر مُمكنات هذا الواقع».
هذه المهمة الصعبة للفيلسوف في واقعنا، على اختلاف مستوياته، هي ما يتصدى لتحقيقه أستاذنا الدكتور سحبان خليفات، بعد ان قضى السنين الطوال في أبحاثه النظرية وتحقيقاته التراثية، او فيما سمحت به الاحوال خلاف ذلك؛ بحيث يمكن القول إن هذه الاشارة المبكرة الى مهمات الفيلسوف الاجتماعية – قبل سبعة وثلاثين عاماً على وجه التقريب – كانت هي الهاجس الرئيس وراء هذه الدراسات والمقالات التي هي في الوقت نفسه مواقف مبدئية للمؤلف, وشهادات لا يكتمها صريحة.
ولعلنا هنا ان نستذكر موقف الفيلسوف الالماني «عمانويل كانْت» حين طُلب إليه، أيام فردريك الثاني، ان لا يُدلي بآراء قد تؤجج النزوع النقدي في الشبيبة الألمانية؛ اذ تعهد – راغماً – ان يقتصر فيما يقول على ما يعلم، وان لا يقول في الوقت نفسه كل ما لا يعلم.
ان هذه المعادلة الكانْتية او هذه التسوية بين ما يعلمه الفيلسوف وما يقوله؛ هي ما يشهد هذا الكتابُ بنقيضها، او ما يقوم أُنموذجاً على التعارض معها؛ ذلك أن فيها ضروباً من المكاشفة، ومن صادق اللهجة وصريح النصح، قلّما نجدها في الأدبيات السياسية والاجتماعية المعاصرة، وهو بذلك دليل ماثل على شهادة الفيلسوف على عصره، وعلى أثره الفاعل فيه في آن.
واذا كان ما تقدم مُدخلاً عاماً أو إطاراً عريضاً نتبيّن فيه الأُفق القِيمي لهذا الكتاب، فان النظر في موضوعاته يظهرنا على أربعة سياقات او محاور تتوزع هذه الموضوعات؛ هي فيما نجتهد: المحور الوطني الاردني، والمحور العربي الاسلامي، ومحور المفاهيم، ومحور التخطيط الاستراتيجي والرؤى المستقبلية.
ونحن نجد مثالاً على المحور الأول، او نقرأ فيه ما جاء في الكتاب تحت العناوين التالية: السمات الرئيسية لواقعنا الثقافي، الموقف الثقافي، ميكانيكا الثقافة في الأُردن، منظومة القيم في المجتمع الأردني، وما أنا عليكم بحفيظ، وغيرها.
كما نقرأُ في المحور الثاني ما جاء في الكتاب تحت هذه العناوين: الانسان العربي بين الكمّ والكيف، ارهاصات النهضة العربية، من التخلف الى التقدم (دراسة تحليلية في مشروع اقبال الإصلاحي)، في تحديث الفكر الديني في الإسلام، تأملات في فلسفة الزكاة في الإسلام، الثقافة عند محمود محمد شاكر، حسين أمين وتحديث الفكر الديني في الإسلام، وغيرها.
اما ثالث المحاور فنقرأُ فيه عن: فلسفة القانون، قيمة الواجب في حياة الأُمّة، حديث الفيلسوف العربي زكريا إبراهيم، العلماء يواصلون مسيرة الأنبياء في البحث عن الحقيقة (الفلسفة في العالم العربي)، مفهوم الديمقراطية في الإسلام «نحو رؤية مستقبلية»، وغير ذلك.
كما اننا نقرأ في المحور الرابع ما ورد تحت العناوين التالية: مشروع معهد تابع لجامعة الأُمم المتحدة خاص بالدراسات المتقدمة في القيادة، دور التواصل بين القيادة والتنظيم في تحريك عناصر الابداع في تنظيمات العالم الثالث، قراءة سريعة في تجربة العلم والتصنيع في كوريا الجنوبية (وهي دراسة يتيمة في بابها، وربما كانت مجرد صيحة في واد!).
على اننا لا نعدم موضوعات أُخرى غير ذات صلة مباشرة بهذه المحاور الأربعة التي اقترحناها اطارا لمادة الكتاب الغزيرة؛ مثل ما كتبه المؤلف عن ميتافيزيقا الشعر، وعن الشعر السياسي عند الشاعر الأردني الراحل خالد الساكت، وغير ذلك كثير، فقد اشتبك الوعي الفلسفي الذي يمثل هذا الكتاب جانباً من فاعليته بشؤون شتى من واقع الفكر والسياسة والاجتماع، واتخذ الحياة كلها مضمارا لِطرادِهِ وساحةً متراحبة الأرجاءِ لأنظاره، فكان لنا كلُّ هذا القطافِ الوفير.
وبعد؛ فلا تعدو هذه المقدمة المتواضعة ان تكون دليلاً قصير الباع، يُشيرُ باستحياءٍ الى جوانب من عمل كبير، نسأل الله تعالى ان يعم به النفع، وان يجزي صاحبه كِفاءَ ما بذل فيه، وما أعطى وأفاضَ وأوفى، والحمد لله الذي لا يُضيع أجر من أحسن عملا.
الراي