طويت حوالي ستة أعوام تشرفت بها بخدمة وطني من أرفع أبوابه وهو ذاكرته الحية ، وتاريخه الشريف ، ومركز معلوماته الذي سعيت لأن يكون مكان العقل منه من مكان الجسد للمجتمع ، انه موقع مدير عام المكتبة الوطنية ، ومن قبلها وبذات الميدان أكثر من ثلاثين عاماً ، وكانت أجملها رحاب الوثائق والملكية الفكرية والذاكرة الصورية وغيرها الكثير من المواضيع التي يتوق كل أردني للمعرفة عنها في المكتبة الوطنية.
اليوم، وقد انتهيت من هذا الموقع ، أستحضر ما مر من أوراق ووثائق ولربما أبرزها ما كتبه شاعر الأردن "عرار" باستقالته وهو ييمم وجهه تاركاً المنصب عام 1948 اذ كتب باستقالته انه سئم من "تزلف البعض إلى ممثلي الدولة المنتدبة، وأنهم سيكونون أول من ينقلب عليها متى وجدوا ذلك ضماناً لمصالحهم وذلك منذ نكبت البلاد بمعرفتهم .." وقد صدقت نبوءته فكان أبناءهم وأحفادهم على نهجهم يرون الوطن مصلحة متى كانت.
ولكن صدقت نبوءة عرار الثانية التي ما زلت أقرأ فيها، أنه رغم ذلك إلا أن من حسن حظ البلاد والغيورين على مصالحها وجود الهاشميين على رأسها، ويقينه الدائم انهم يضعون" الصدق محل الخزعبلات، والعلم محل الجهل، والأمانة محل الخيانة، والإخلاص والشرف والنزاهة محل الميل مع كل هوى." وبهذا بقي الأردن مصونا من كل شر.
اليوم تطوى سني الخدمة، بعد أن تركنا مؤسسة وطنية باتت تعادل وتناظر أرقى المؤسسات العربية والدولية المثيلة لها، ونعود لمهنتنا التي لطالما أحببنا الكتابة، فالكاتب لا يستقيل، ومن تتلمذ على الوفاء والبذل سيبقى لأنه متيقن أن هذا الوطن فيه الكثير من الخير. وخلال هذه المحطة ، ولله الحمد ، حققنا خيرا لذاكرة الوطن ، اذ باتت المكتبة الوطنية محجاً لكل من يبحث عن الوطن في تاريخه ، وللمؤلف في إشهار كتابه، وللمثقف إن نشد بيتاً، فبإخلاص وواجب دخلت المكتبة الوطنية كل بيت أردنيٍ.
وقد كان قانون الوثائق الوطنية ، والذي أعتز بأنني سعيت بكل طاقتي لإقراره ليكون الحامي والحارس لذاكرة الأردنيين والذي أقر في أيار الماضي ، بعد أن كانت الوثائق حكراً بيد البعض ممن احترفوا حجبها وسكنت بيوتهم ، رغم أن مكانها السليم هو المؤسسات التي تعنى بالحفاظ على ذاكرة الوطن.
لقد آمنت منذ كنت طالباً على عتبات الجامعة الأردنية أن هذا الوطن كريم بشعبه وقيادته ، فبذلت مؤمنا أنه يستحق ولهذا عملت بإخلاص المجد ووفاء الكريم ، متيقنا أن شعبنا هو شعب يستحق أن يتبوأ مكانه الذي عمل عليه ، رغم العلل الكثيرة التي واجهتني ، ورغم الصعاب والعراقيل التي تتفنن بها فئة أبتلي بها الوطن .
اليوم أودع الزملاء في بيت الوطن " المكتبة الوطنية " مستوصياً الخير بما بذلنا وعملنا لأجله وحققناه من منجز ، فالمسؤول هو كل أردني ، وليس فقط من تشرف بحمل الأمانة ، فكل أردني وجب أن يحافظ على الوطن ويخدمه في كل شيء.
إذ انك تستطيع أن تخدم وطنك في هيأتك وسلوكك وحتى في طريقة مشيتك ، فكلنا مسؤولون بأن نصون هذا الوطن ، ونختم مرة أخرى مع استقالة عرار مقتبسين منها " سيجدني الوطن دائماً وأبداً الوفي له والمتفاني في خدمته إذا ما جد الجد، ووجبت التضحية بالنفس والأولاد، وكل ما هو في متناول اليد لا لغرضٍ من أغراض الحياة بل وفاءً ورعايةً للعهد واعترافا بالفضل " ذلك أن " المرء حديث بعده .. فكن حديثاً حسنا لمن دعا" دام الأردن وعلى عهد الولاء لجلالة الملك عبد الله الثاني -حفظه الله ورعاه – وللبيت الهاشمي الكريم.
* مدير عام المكتبة الوطنية