كم أغفل تاريخ الأدب رجالاً يستحقون الصدارة فيه، وكم حفلت تراجم الرجال بِشُعراءَ ومترسّلين جديرين بأنّ يحظوا باهتمام النقّاد أضعاف ما يحظى به المقرزمون الضعّفة أيامنا هذه في أقل موازنة وتقدير.
ولعل اقتصار التماسِ الشواهد على الحياة الأدبية على دواوين الأدب وكتب طبقات الشعراء أن يكون أول أسباب هذا القُصور في «التأريخ» للأدب والأدباء في تاريخنا العربي، فَلَرُبَّ كتابٍ مثل «سير أعلام النبلاء» للإمام الذهبي أو مثل «طبقات الشافعية الكبرى» للإمام السّبكي أو مثل «الرسالة القشيرية» أن يكون منجماً للدارس المتحقق أو الناقد المدقّق. ولربّ كتابٍ في الوعظ مثل كتاب «صيد الخاطر» لابن الجوزي، أو خُطَبٍ «مجموعة» في كتاب مثل «نهج البلاغة» للإمام علي كرّم الله وجهه، أو كتابٍ في علم الكلام مثل «أبكار الأفكار» لسيف الدين الآمدي، أن تُظهرَنا على كنوز أدبيّة (في النثر والشعر على حدٍ سواء) وتقِفَنا على عبقريات تستأهل أن تكون في دائرة الضوء وفي بؤرة الاهتمام. ولرب فقيهٍ أو عالم كلام أو فيلسوف او كاتب ديوان يكونُ من أشعر الشعراء وأبرع الناثرين (المترسلين) إذا ما كُشِف عن عبقريته الغطاء.
***
في ضوء ما تقدم نلفت انتباه الدارسين إلى (الشيخ الزاهد، القدوة العارف، المفسّر: عبدالعزيز الدِّيريني (613-694) هجرية. الذي نجد جوانب من سيرته وأُنموذجات من أدبه في الطبقة السادسة من طبقات الشافعية الكبرى.
كان سيدنا الديريني هذا ذا نفسٍ مرهفة وقلب يقظ، وكان غالباً ما يتردّد إلى أرياف مصر المحروسة يتوسّم آيات الله في مجاليها ويكثر التسبيح، وإنّ لَهُ لدُعاءً (في كتابه: «طهارة القلوب» الذي نأمل أن نراه محقّقاً ذات يوم) لا يقل شكلاً ومضموناً عمّا نجده في «الرسائل الإلهيّة» للتوحيدي من ألوان المناجاة.
يقول سيدنا الديريني فيما نُعدّهُ نمطاً فريداً من الترسّل مناجياً علاّم الغيوب:
«إلهي، عرّفتنا بربوبيّتك، وغرّقتنا في بحار نعمتك، ودعوتنا إلى دار قدسك، ونَعمْتَنا بذكرك وأُنْسِك.
إلهي، إن ظُلْمةَ ظُلْمِنا لأنفسنا قد عمّت، وبحار الغفلة على قلوبنا قد طمّت، فالعجزُ شامل، والحصرُ حاصل، والتسليم أسلم، وأنت بالحالِ أعلم.
إلهي، ما عصيناك جهلاً بعقابك، ولا تعرُّضاً لعذابك، ولكن سوّلت لنا نفوسنا، وأعانتنا شِقوتُنا، وغرّنا ستُرك علينا، وأطمعنا في عفوِكَ بِرُّكَ بنا، فالآن من عذابِك مَنْ يستنقذنا؟ وبِحبل من نعتصم إن قطعت حبلك عنّا؟ واخجلتا من الوقوف غداً بين يديك، وافضيحتنا إذا عُرضت أعمالنا القبيحةُ عليك.. اللهم اغفر ما علمت، ولا تهتك ما سترت..
إلهي، إن كُنا عصيناك بجهلٍ فقد دعوناك بعقل، حيث علمنا أنّ لنا ربّاً يغفرُ الذنوبَ ولا يبالي..».
***
أما شعر سيدنا الدِّيريني، فهو كثير، فضلاً عن منظوماته في التفسير والسيرة النبويّة، وهو مُفْتَنَّ في أشعاره، وأقرب ما يكون في ذلك إلى صفي الدين الحِلّي (ونذكر هنا تحقيق الصديق الدكتور محمد حوّر لديوان الحِلّي في ثلاثة مجلدات)، ويلمس قارئ هذه الأشعار نزوعه الفلسفي ونزعته التقوية وعمق إيمانه بالقضاءِ والقدر.
***
يقول سيدنا الدِّيريني (في تخميس أبيات للتهامي في رثاء أخيه، وهذا يلزمنا بالبحث عن قصيدة التهامي الذي قد يكون أعظم من المتنبي ونحن لا نعلم من علمه شيئاً).
يقول هذا العالِمُ الشاعر «عبدالعزيز الدِّيريني» الذي لا ينبغي لنا منذ الساعةِ نسيان اسمه:
سلّمْ أُمورك للحكيم الباري
تسلّمْ من الأوصابِ والأوزارِ
وأنظرْ إلى الأخطارِ في الأقطارِ
حُكم المشيئة في البريّة جاري
ما هذه الدنيا بدارِ قرارِ
***
لذّاتُ دنيانا كأحلام الكرى
وبلوغ غايتها حديثٌ مُفترى
وسرورُها بشرورها قد كُدّرا
بينا يُرى الإنسان فيها مُخبِرا
ألفيته خبراً من الأخبار
***
لا تغتررْ بوميضها وخداعِها
فوَراءَ مَبْسَمِها نبوبُ سباعها
إذْ لم تُعرّفْ فِتْرَها من باعِها
ومكلّفُ الأيام ضدّ طباعها
متطلّبٌ في الماءِ جذوة نارِ
***
ولا نمضي، لضيق المقام، وراء ذلك، ونكتفي بالإشارة إلى أن هذا التخميس لأبيات التهامي يبدو وكأنه منطلق على البديهة من شاعرنا الديريني. وهذا دليل على شاعريته غير مدفوع.
***
وبعد فهذه وقفة مع أدب راقٍ لم نجده في كتب الأدب، ولا في دواوين الشعراء. فعسى أن نخلص منها إلى ضرورة إعادة النظر في منهج التأريخ الأدبي السائد. فإن كان شيء من ذلك فهو غاية ما نريد، ولا نزيد..
الرأي