ترتكز الهندسة السياسية على حقوق الانسان والديموقراطية وحرية المبادرة الفردية، بشكل يتوافق مع الطبيعة العالمية والنمطية لحقوق الانسان.
كذلك الطبيعة التشاركية للسياسة بشكل يخلق معها توافق عالمي على المستويات القيمية والمؤسساتية.
الهندسة السياسية بتوظيفها التكاملي للمناهج الخاصة بالذكاء الاصطناعي والادوات التحليلية المستخدمة في العلوم المرتبطة بالإنسان والسياسة معا وكذلك استخدامها لبناءات احتمالية واستقرائية تهدف بالأساس لبناء نموذج حكم يصلح لكل المجتمعات مهما اختلفت تنمويا، قيميا، تاريخيا، او اجتماعيا.
يتعامل المهندسون مع مشاكل المادة، لكن المهندسين الاجتماعيين يتعاملون مع مشاكل الانسان.
تردد مصطلح الهندسة الاجتماعية في القرن العشرين، وتهدف الى التأثير على موقف الشعب وسلوك المجتمع، وقد طور البعض المصطلح ليذهب الى خطط اختراق العقول البشرية وتوجيهها، حيث لا يكفي اختراق الاجهزة دون اختراق العقول.
عند تشكيل النظام العالمي الجديد عقب انهيار الاتحاد السوفياتي وتحطيم جدار برلين ونهاية الحرب الباردة، ظهرت الهندسة السياسية والهندسة الديموقراطية.
تعنى الهندسة الديموقراطية بتقديم الاستشارات للتحول الديموقراطي
لذا فانه من يريد ان يبني منزلا فعليه الاتصال بمهندس مدني ومعماري ومن يود تحسين النظام الديموقراطي فما عليه الا الاتصال بمستشار في الديموقراطية، انه المهندس الديموقراطي الذي يقدم أفضل مشورة وأقل مخاطرة.
الهندسة السياسية تسعى لتطوير نموذج تحليلي مقارن قائم على القياس والتصنيف باستخدام كيفية حقوق الانسان.
هي مجال علمي من اجل بناء صياغات عالمية حول نظم حكم ديموقراطي مشارك يضمن حركية للمشروعية بارتباطها ابتداء بحقوق الانسان.
سادت مفاهيم الهندسة السياسية وجرى حصارها في عملية التحول الديموقراطي وحقوق الانسان، دون التطرق الى ما ينبغي ان يشير عليه هذا المصطلح وهو هندسة السياسة الداخلية والخارجية للدولة بما ينقلها من وضع عدم التقدم الى مصاف الدول المتقدمة.
تمنح بعض الجامعات الماجستير في الهندسة السياسية ،طبقا للمفهوم السائد الذي يتعلق بصياغة عالمية لنظام حكم ديموقراطي عبر وضع هياكل للدستور والقانون والانتخابات او ما يسمى بالهندسة الدستورية والهندسة القانونية والهندسة الانتخابية
هناك تعريف وسياق فكري آخر للهندسة السياسية بالتعريف الفرنسي :هي مجرد نصوص في حقوق الانسان وقوانين الانتخابات ،وهي امور لها مكانتها في دراسات حقوق الانسان ودراسات نظم الحكم ،ولا تحتاج الى مصطلح جديد ،ذلك ان مصطلح الديموقراطية والتحول الديموقراطي هو الانسب لوصف الهندسات الدستورية والقانونية والانتخابية ،وحتى ما يخص نزع سيادة دولة ما وفرض نموذج لنظام الحكم عليها ،فهو يدخل في اطار الصراع الدولي ضمن حقل العلاقات الدولية ولا يحتاج الى مصطلح الهندسة السياسية في شيء .
الهندسة السياسية هي علم بناء الدولة اي علم ادارة شؤون الدولة عبر تخطيط شامل للسلطة والمجتمع، وبناء واعادة بناء المؤسسات العامة والخاصة بما يؤدي الى انتقال الدولة من التخلف للتقدم او من التقدم الى التقدم الاعلى مع وضع آليات استدامة عملية التقدم، فهي علم النهضة وعلم التقدم.
يتطور علم السياسة ليواكب تطورات العصر ويتفرع الى موضوعات وفروع متشعبة تعتبر جزءا لا يتجزأ منه ،ذلك ان السياسة الرشيدة تقتضي الفهم الكامل للقيم المجتمعية ،اي معرفة وزن تفصيلات المجتمع باسره وهي تتطلب كذلك معلومات عن السياسات البديلة او القدرة على التنبؤ السليم بنتائجها والحساب الدقيق للفرق بين التكلفة والعائد ،وهي تتحرى اخيرا نظاما لصنع القرار يتحرى العقلانية في صنع السياسة
يقصد بالهندسة السياسية عملية اجراء التعديلات اللازمة على الشيء القائم فعلا ،اي احداث الاصلاحات الضرورية على الاجهزة والمؤسسات المختلفة ،وترتكز على انشاء شيء جديد او ان يبقى على الشيء القديم القائم ولا يزيله من الوجود بل يقوم بهندسته واعادة هيكلته وابنيته بإصلاحها فقط .
هناك دول كثيرة تقدمت بسبب الهندسة السياسية مثل الصين وسنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية
1-لقد قدمت التجربة الصينية نموذجا باهرا في الهندسة السياسية، لم تقم الصين بالإصلاح الجزئي بل وضعت رؤية للإصلاح الكلي الشامل وقد نجحت في تحقيق الاصلاح الكبير دون عدد كبير من الخاسرين الذين كان يمكنهم عرقلة الاصلاح، كما ان الصين قامت بالإبداع الفكري ازاء عدد من القضايا ولم تقم بالوصفات الشائعة.
2-ان ماليزيا نموذج اخر في قوة الهندسة السياسية ،حيث نجح الدكتور مهاتير محمد في الانتقال بماليزيا من مستوى اقتصادي كان يعادل هاييتي وهندوراس واقل من غانا حين الاستقلال عام 1957الى ان تكون ماليزيا هي اليابان الجديدة.
نظر مهاتير محمد الى جهة الشرق ،حيث اليابان وكوريا الجنوبية ورفع شعار ماليزيا يمكنها فعل ذلك وخطت ماليزيا من حال الى حال .
يقول مهاتير محمد في مذكراته ( كان بناء فندق يحتاج الى 200موافقة منفصلة ،والآن اصبح بناء منزل في ماليزيا اسرع مما يتم في بريطانيا )
لقد تحولت هذه الدول من دول تائهة الى دول باهرة بفضل الهندسة السياسية والتخطيط السليم والانتماء .
الهندسة السياسية تعنى بما يلي :
1-تجمع بين التخطيط الشامل والتخطيط القطاعي الجزئي ،فشمول خطة الاصلاح لكل القطاعات يسمح بمواجهة كل الامكانات المؤسسية او الوطنية او القومية ، وكل الاهداف المؤسسية او الوطنية والقومية معا .
2-هي خطة اصلاح تزاوج بين التخطيط المركزي واللامركزي
3-تجمع بين التخطيط على جميع المستويات المؤسسية والوطنية والاقليمية لخطة الاصلاح ،وتجمع بين التخطيط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والمؤسساتي والقانوني .
4-تتميز العملية بالشمول فهي تشمل مختلف اهداف التخطيط الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والاطر القانونية ،وتشمل ايضا التنفيذ والصيانة والتمويل والمتابعة .
أما نحن في عالمنا العربي فهندستنا السياسية ان المشهد العربي الحالي بكل ما فيه من بؤس هو شيء جديد هو ان النتيجة الكارثية للثورات العربية كانت بفعل مؤامرات خارجية فقط او ان الثورات المضادة هي التي اجهضت الربيع العربي وحالت دون تحقيق آمال الشعوب ،وان عدم تقديم الدعم الكافي للثوار من قبل الاشقاء والاصدقاء قد خذل الثورات وتركها لوحوش النظم المستبدة ،وكل هذه الحجج تقوم على افتراض ان ما يحدث اليوم في العالم العربي ظاهرة جديدة لا سابق لها وانه كان من المتوقع ان تكون هناك نتائج اخرى غير الحنظل الذي ذاق مرارته كل العرب .
النتيجة الوحيدة للثورات العربية هي عودة الاستعمار ، فبعد 6سنوات من الربيع العربي لم تبق دولة عربية انطلقت فيها الثورة الا وقد فقدت من سيادتها او استقلالها او من مكانتها الدولية ودورها الشيء الكثير ،بل ان بعض الدول العربية فقدت وجودها كدولة وتحولت لحطام يتنازعه عصابات يحركها من يمولها من وراء الحدود .
مع العلم ان الرئيس فارس الخوري (سياسي ومفكر ووطني سوري ولد في قرية الكفير سنة 1873م التابعة حاليا لقضاء حاصبيا في لبنان )
انه دخل الى الامم المتحدة حديثة المنشأ بطربوشه الاحمر وبدلته البيضاء الانيقة قبل موعد الاجتماع الذي طلبته سوريا من أجل رفع الانتداب الفرنسي عنها بدقائق واتجه مباشرة الى مقعد المندوب الفرنسي لدى الامم المتحدة وجلس على الكرسي المخصص لفرنسا .
بدأ السفراء بالتوافد الو مقر الامم المتحدة دون اخفاء دهشتهم من جلوس فارس الخوري - المعروف برجاحة عقله وسعة علمه وثقافته – في القعد المخصص للمندوب الفرنسي ، تاركا المقعد المخصص لسوريا فارغا .
دخل المندوب الفرنسي ووجد ان فارس الخوري يحتل مقعد فرنسا ،فتوجه اليه وبدأ يخبره ان هذا المقعد مخصص لفرنسا ولهذا وضع امامه علم فرنسا واشار له الى مكان مقعد سوريا الذي عليه العلم السوري ، لكن فارس الخوري لم يحرك ساكنا بل بقي ينظر لساعته دقيقة، اثنتان ،خمسه ...
استمر المندوب الفرنسي في محاولته افهامه ان مقعده في الجهة الاخرى
بدأ المندوب الفرنسي صبره بالنفاذ واستخدام عبارات لاذعة وغضب المندوب الفرنسي وكان يريد ان يستعمل القوة لإزاحة فارس عن المقعد لولا تدخل السفراء للحجز بينهم .
عند الدقيقة الخامسة والعشرين تنحنح فارس ووضع ساعته بجيبه ووقف بابتسامة عريضة تعلو شفاهه وقال للمندوب الفرنسي :
سعادة السفير جلست على مقعدكم مدة 25 دقيقة وكدت تقتلني حنقا وغضبا ، وسوريا استحملت تصرفات جنودكم اللاأخلاقية مدة 25 سنه وآن لها الآن ان تستقل .
في تلك الجلسة نالت سوريا استقلالها وفي عام 1946،جلا آخر جندي فرنسي عن سوريا .
كان فارس الخوري رئيسا لوزراء سوريا عام 1944 وفي ذات التاريخ وزيرا للأوقاف الإسلامية ،وعندا اعترض البعض ،وخرج نائب الكتلة الاسلامية ليتصدى للمعترضين قائلا: اننا نؤمن فارس الخوري ( المسيحي ) على اوقافنا اكثر مما نؤمن انفسنا .
احد الايام ابلغه الجنرال غورو ان فرنسا جاءت الى سوريا لحماية مسيحيي الشرق ، فما كان من فارس الخوري الا ان قصد الجامع الاموي في يوم الجمعة وصعد المنبر وقال :اذا كانت فرنسا تدعي انها احتلت سوريا لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين ، فأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد ان لا اله الا الله ، فاقبل مصلو الجامع الاموي وحملوه على الاكتاف وخرجوا به الى احياء دمشق القديمة في مشهد تذكرته دمشق طويلا وخرج اهالي دمشق المسيحيين يومها في مظاهرات حاشدة ملأت دمشق وهم يهتفون لا اله الا الله ....
لم يكونوا مسلمين ولا مسيحيين بل كانوا سوريين وكلهم ابناء الوطن الواحد .....
هذه نماذج قادتنا والمنتمون لشعبنا ووطننا ....
لذا ما علينا الا الانتباه لهذه الاسباب لنبقى نتطلع الى الفائدة المرجوة التي سببت الثورات وما هي الرغبة في ذلك لتحسين اوضاع الشعوب وحمايتهم وتقدمهم ورفع الظلم عنهم .
Dr.sami.alrashid@gmail.com